الحياد يضمن استمرار “لبنان الرسالة”

مدة القراءة 8 د

يوميْ الأربعاء والخميس في 2 و3 شباط حضر البابا يوحنّا بولس الثاني إلى لبنان من جديد. ليس في زيارة رعوية كالتي قام بها في العام 1997، إنّما في مؤتمر حمل عنوانُه اسمَه وشعارَه التاريخي للبنان الذي لا يزال يتردّد صداه في لبنان والمنطقة والعالم. “البابا يوحنا بولس الثاني ولبنان الرسالة” هو عنوان المؤتمر الذي نظّمه الدكتور فريد الخازن، سفير لبنان لدى الكرسي الرسولي، واستضافته جامعة الروح القدس – الكسليك. مناسبة المؤتمر مثلّثة: الذكرى السنوية الـ 75 لبدء علاقات لبنان الدبلوماسية مع الفاتيكان، والذكرى الـ 25 لزيارة البابا يوحنّا بولس الثاني التاريخية للبنان، والذكرى الـ 10 لزيارة خلفه البابا بنديكتوس الثالث عشر. خطابات ومحاضرات ألقاها رجال دين وباحثون، مسيحيون ومسلمون ودروز. على مدى يومين أعادتنا إلى تلك الزيارة التاريخية للبابا التاريخي، وإلى رسالته التاريخية عن “لبنان الرسالة”.

لبنان في مقدَّم اهتمامات الفاتيكان الكنيسة والدولة. فهو “من المسائل الثابتة على جدول أعمال الدبلوماسية الفاتيكانية” الـ “فاعلة برصانة واحتراف”

بين لبنان والبابا يوحنا بولس الثاني علاقة مميّزة. ولد كارول فوتيلا (اسمه الأصلي) في العام 1920، العام ذاته الذي أُعلنت فيه ولادة “دولة لبنان الكبير”. بدأ حبريّته في العام 1978، مع بدء مرحلة جديدة من الحرب اللبنانية (حرب المئة يوم) التي أكّدت أنّ الجيش السوري جيش محتلّ وليس “قوات ردع عربية”. سريعاً تعاطف البابا الآتي من بولندا، البلد المحتلّ من قبل الاتحاد السوفياتي، مع معاناة اللبنانيين وقرّر مساعدتهم. “تابع عن قرب الأوقات الصعبة التي اختبرها الشعب اللبناني، وعاش معهم معاناتهم بالصلاة والعمل (من أجل إنهاء الحرب في لبنان)”، كما قال مسؤول العلاقات مع الدول في الفاتيكان المونسنيور بول ريتشارد غالاغر في كلمته في افتتاح المؤتمر. تزامن تحرّر بولندا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1989 مع توقيع وثيقة الوفاق الوطني في الطائف التي أنهت الحرب في لبنان. فقرّر البابا بدء نضاله الفعليّ من أجل لبنان ما بعد الحرب. أعلن في رسالته إلى كلّ الأساقفة الكاثوليك في العالم (7 أيلول 1989) أنّ “لبنان هو أكثر من بلد، إنّه رسالة حريّة ونموذج للتنوّع للشرق كما للغرب”. كان السينودس الخاصّ بلبنان قمّة هذا النضال. وتُوِّج بالزيارة التاريخية للبنان التي قام بها يوحنا بولس الثاني، والتي تلا فيها الإرشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان”. وما أحوجنا اليوم إلى هذا الرجاء!

الرجاء كلمة شدّد عليها الأباتي نعمة الله الهاشم، الرئيس العامّ للرهبانية اللبنانية المارونية، في كلمته في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر. فأطلق صرخة صمود كلّها رجاء وثقة بالله وبالإنسان وبلبنان. قال: “سنصمد لأنّنا نتّكل على الله وعلى شفاعة سيّدة لبنان وقدّيسيه. سنصمد لأنّنا نحمل مسؤولية الرسالة الإنسانيّة التي حملها أجدادنا ووصلت إلينا. سنصمد كما صمدوا وتخطّوا صعاباً وأزمات واضطهادات ومجاعات أشدّ فتكاً وخطورة. سنصمد مستلهمين جهادهم وكفاحهم من أجل العيش الحرّ الكريم معاً. سنحافظ على إنساننا وأرضنا ومؤسّساتنا وعائلاتنا وقِيَمنا بفضل تضامننا وتضحياتنا”. ربّما يعتبرها البعض كلمات في خطاب فحسب. ولكن من يعرف تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية ومحطات صمودها إلى جانب اللبنانيين في أصعب الظروف، يرى فيها قراراً بالصمود. كلمات ذكّرتني بالأباتي إغناطيوس التنّوري، الذي كان رئيساً عامّاً لهذه الرهبانية في أيام المجاعة الأولى التي عاشها أبناء جبل لبنان في ظلّ حكم جمال باشا السفّاح، فرهن أملاك الرهبانية للدولة الفرنسية لإطعام الشعب الجائع. في أيام “المجاعة الثانية” التي نعيشها اليوم في ظلّ حكم أفراد المنظومة الحاكمة السفّاحين، ليس غريباً على الرهبانية أن تقف إلى جانب اللبنانيين في جامعتها ومدارسها وفي أراضيها وأملاكها وكلّ مؤسّساتها، وتساعدهم، وتساعد بصمت المتضرّرين من انفجار مرفأ بيروت، وتفتح أبواب أديرتها لكلّ جائع ومحتاج… وأعتقد أنّ الأب العامّ الحالي، إذا اضطرّ، سيفعل ما فعله سلفه التنّوري. فالإنسان يستعيد الأرض. أمّا الأرض فتبتلع الإنسان إذا ما مات جوعاً.

البطريرك الحويّك هو من صنع “لبنان الكبير”، وبشاره الخوري ورياض الصلح صنعا “الميثاق الوطني”، الذي ثبّت صيغة العيش المشترك الذي جعل من لبنان رسالة ذاع صيتها في الشرق والغرب

أصاب السفير فريد الخازن عندما قال إنّ المحطة الثالثة للعلاقات بين لبنان والفاتيكان “انطلقت مع البابا القديس يوحنا بولس الثاني عبر مواقفه المعروفة وإطلاقه السينودس الكنسي الخاص بلبنان”. منذ ذاك الحين ولبنان في مقدَّم اهتمامات الفاتيكان الكنيسة والدولة. فهو “من المسائل الثابتة على جدول أعمال الدبلوماسية الفاتيكانية” الـ “فاعلة برصانة واحتراف”. وقد أكّد البابا الحالي فرنسيس في لقاء البطاركة الشرقيين في الأوّل من تموز 2021، أنّ “لبنان بلد صغير كبير، وهو أكثر من ذلك: هو رسالة عالمية، رسالة سلام وأخوّة ترتفع من الشرق الأوسط”.

قُسِّم المؤتمر إلى خمسة محاور أُلقيت فيها محاضرات عن خصوصيّة لبنان وعن العلاقات الإسلامية – المسيحية التي تشكّل واحدة من أبرز ركائز لبنان الرسالة في المنطقة والعالم، وعن العيش المشترك في الدولة والمجتمع وتحدّياته، وعن رسالة لبنان التربوية والثقافية والتحدّيات التي تواجه الجامعات والمدارس، وعن الحرّيّات السياسية والإعلامية التي تميَّز بها لبنان منذ تكوينه.

عندما نتكلّم عن لبنان الرسالة، أوّل ما يخطر في البال رسالة الحوار بين الأديان ورسالة التربية والثقافة والانفتاح. وحسناً فعل المنظّمون بأن خصّصوا المحاضرة الأولى في المؤتمر للكلام عن المدرسة المارونية في روما (1584-1808). وأوكلوها إلى المتخصّص فيها المطران مارون ناصر الجميّل الذي قال إنّ تلك المدرسة أسّست لانفتاح لبنان (حينها جبل لبنان) على الحضارة الغربية وعلى الحداثة، وأسّست أيضاً لدور لبنان في تعريف الغرب الأوروبي على الإسلام، خاصة أنّ الإمبراطورية العثمانية الإسلامية كانت قد قامت على حدود أوروبا، لا بل أصبحت فيها. وساهم خرّيجوها الزغرتاويون والبشرّاويون والحصرونيون والجبيليون والكسروانيون والمتنيّون وغيرهم في تطوير “علم الاستشراق” الذي ساهم بدوره في تعريف الغرب (المسيحي) على الشرق (المسلم). فكانوا يعلّمون اللغة العربية للراغبين في خوض مغامرة الاستشراق في “المدرسة الملكية” (collège royale) في باريس والمعروفة اليوم باسم collège de France، أوّل معهد علمي في فرنسا.

على مدى يوميْ المؤتمر، كنت أسأل: أيّ رسالة يحملها لبنان اليوم في المنطقة والعالم؟ لبنان الدولة الفاشلة؟ لبنان الفساد؟ لبنان الميليشيا؟ لبنان الإرهاب؟ لبنان الصواريخ؟ لبنان مصنع الجنود للقتال في بلدان الجوار؟ لبنان الكبتاغون؟…

ربّما كان على المنظّمين دعوة الشيخ نعيم قاسم ليعلَم أن ليست “المقاومة هي من صنعت سمعة للبنان”. فمن صنع سمعة لبنان هم تلامذة المدرسة اللبنانية، سمعة لبنان العلم والثقافة والحضارة. حتى كانوا يقولون في أوروبا “عالم كمارونيّ” (أي لبناني). وفخر الدين المعني الثاني هو من صنع سمعة لبنان الاعتدال والانفتاح والتبادل التجاري والازدهار. وبشير الشهابي الثاني هو من صنع سمعة لبنان بالإدارة القويّة. والبطريرك الحويّك هو من صنع “لبنان الكبير”، وبشاره الخوري ورياض الصلح صنعا “الميثاق الوطني”، الذي ثبّت صيغة العيش المشترك الذي جعل من لبنان رسالة ذاع صيتها في الشرق والغرب… والميثاق بلاءيْه الاثنتين أسّس لحياد لبنان.

اللافت في المؤتمر غياب موضوع الحياد. وهو غاب أيضاً عن كلمة المونسنيور غالاغر! فهل الفاتيكان غير مقتنع بطرح البطريرك الماروني للحياد؟ أم ينتظر بلورته في مشروع متكامل بكلّ جوانبه القانونية والسياسية والجيوسياسية؟ أم دوائره السياسية ترى أنّ الوقت ليس مناسباً لتبنّي هذا الطرح؟

إقرأ أيضاً: الحياد و”الاستقلال الثالث”

شاركت في كلّ أعمال المؤتمر. لم أغب عن أيٍّ من جلساته. اشتقت لحضور المؤتمرات حضورياً. فلقاء الأفكار أعمق في اللقاء المباشر. ما يُناقش قبل جلسات العمل وبعدها يكون أحياناً أهم ممّا يُقال في الجلسات. جائحة كورونا حرمتنا هذه المتعة على مدى سنتين. أتمنّى أن لا يؤثّر الوضع المالي للجامعات ولمراكز الأبحاث بسبب الانهيار الاقتصادي على عقد المؤتمرات. ففي خضمّ الأزمات من كلّ جانب، نحن أحوج ما نكون إلى تفكير معمّق للحفاظ على البوصلة، بوصلة لبنان، وقد حدّدها البابا يوحنا بولس الثاني منذ ربع قرن: لبنان الرسالة، رسالة الحريّة والسلام. والحياد يضمن استمرار “لبنان الرسالة”.

 

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…