سيطرت تطوّرات دراماتيكية متسارعة ومتلاحقة على المشهد السياسي العراقي عشيّة الدعوة إلى عقد جلسة برلمانية لانتخاب رئيس جمهورية جديد. الأمر الذي سيفتح الباب أمام اختيار رئيس للحكومة المقبلة، ويمهّد الطريق أمام انطلاق العملية السياسية والحكومية بعد استكمال الاستحقاقات الدستورية.
تأتي هذه التطوّرات بعد ذهاب الأمور إلى توزيع عمودي بين فسطاطين:
– الفسطاط الأول يضمّ التحالف الثلاثي المؤلّف من الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، وتحالف السيادة المتشكّل من كتلة “العزم” بقيادة خميس الخنجر و”تقدّم” بقيادة محمد الحلبوسي، و”التيار الصدري” بزعامة مقتدى الصدر. وهو التحالف الذي استطاع أن يحقّق الخطوة الأولى بالاستحواذ على رئاسة البرلمان.
– أمّا الفسطاط الثاني فعنوانه السياسي هو “الإطار التنسيقي”، الذي يضمّ رئيسيْ الوزراء السابقيْن نوري المالكي وحيدر العبادي وزعيم “تيار الحكمة” عمّار الحكيم وزعيم تحالف الفتح هادي العامري وزعيم “عصائب أهل الحقّ” قيس الخزعلي.
سيطرت تطوّرات دراماتيكية متسارعة ومتلاحقة على المشهد السياسي العراقي عشيّة الدعوة إلى عقد جلسة برلمانية لانتخاب رئيس جمهورية جديد
تمظهرت أهمّ التطوّرات التي تشكّل مؤشّرات واضحة إلى عمق الأزمة التي تمرّ بها العملية السياسية في بغداد، في ما يلي:
1 – الخطاب المختلف الذي قدّمه عمّار الحكيم من مدينة النجف، إذ طمأن قيادات المكوّنين الكردي والسنّيّ، خاصة المشاركين في التحالف الثلاثي مع الصدر. كما استخدم لغة مختلفة في مخاطبة الشريك الآخر (الصدر) داخل المكوّن الشيعي.
2 – قرار المحكمة الاتحادية المتعلّق باحتساب أغلبيّة الثلثين في الجلسة البرلمانية لانتخاب رئيس الجمهورية وانسحابها على الجلسة التالية، أي إسقاط الأغلبية المطلقة من الجلسة الثانية، خاصة أنّها حدّدت هذه الأغلبية بمئتين وعشرين نائباً (220) من أصل ثلاثمئة وتسعة وعشرين نائباً (329).
3 – قرار الصدر بترك الحريّة لنواب الكتلة الصدرية في التصويت لمرشّح الحزب الديمقراطي هوشيار زيباري.
4 – قرار المحكمة الاتحادية (أمر ولائي) بتعليق ترشيح زيباري لحسم الموقف القانوني من الدعاوى المقامة ضدّه بتهم الفساد وإساءة الأمانة أمام القضاء العراقي.
5 – قرار الصدر بمقاطعة الجلسة البرلمانية المخصّصة لانتخاب رئيس الجمهورية مع استثناء النائب الأوّل لرئيس البرلمان الصدريّ من هذا القرار. وقرار آخر بتعليق المفاوضات السياسية مع الأحزاب السياسية.
6 – إعلان الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، قطبيْ التحالف الثلاثي، مقاطعة الجلسة البرلمانية، بعد اتصال الصدر ببارزاني لتوضيح هذه الخطوة التي فاجأت أقطاب الحلف الثلاثي.
7 – إعلان قوى الإطار التنسيقي عدم المشاركة في هذه الجلسة البرلمانية.
هذه التطوّرات والمواقف خلطت الأوراق من جديد في المشهد السياسي الذي كان يتّجه لحسم الموقف لمصلحة التحالف الثلاثي، وبالتالي أجّلت قيامة العراق وعلّقت الاستحقاقات الدستورية من بوّابة تأجيل انتخاب رئيس الجمهورية إلى ما يتجاوز التوقيتات الدستورية.
“الحنانة” تواجه “النجف”
لعلّ المؤشّر الذي لم تتوقّف عنده الأوساط المتابعة للمشهد العراقي، برز في كلام عمّار الحكيم الذي تحدّى الصدر بإقامة احتفالية “يوم الشهيد” في ذكرى اغتيال عمّه السيد محمد باقر الحكيم في مدينة النجف، خاصة بعد ما صدر عن حازم الأعرجي، أحد أركان التيار الصدري في مدينة الكاظمية، من أنّ “الحنانة” مقرّ إقامة مقتدى الصدر هي مركز القرار السياسي والشرعية، على حساب كلّ الأطراف في المكوّن الشيعي. وهو ما يؤسّس لعزل مرجعية النجف لمصلحة مرجعية الحنانة.
ذَكَّر الحكيم الأكراد بتاريخيّة العلاقة بينهم وبين مرجعيّة السيّد الحكيم الذي أصدر في 5 تموز عام 1965 فتوى بتحريم قتال الأكراد في المعارك التي خاضها عبدالسلام عارف والتيار القومي العربي ضدّهم، وبأنّ خيار الذهاب إلى طرف طارئ على هذا التحالف والعلاقة التاريخية لا يصبّ في مصلحة العراق، بل يضعه أمام خطر الانزلاق نحو مستنقع الدم من خلال تفتيت البيت الشيعي. في وقت أبدى هذا المكوّن حرصاً كبيراً ودائماً على وحدة البيتين الكردي والسنّيّ.
على الرغم من قيام الأعرجي بالاعتذار عن المواقف التي أطلقها حول مرجعية النجف، بتوجيه وأوامر من الصدر، إلا أنّ قرارات زعيم التيار الصدري اللاحقة المتعلّقة بمرشّح الحزب الديمقراطي زيباري والمشاركة في الجلسة البرلمانية، تختلف في منطلقاتها. ولعلّ الدافع أو المحرّك لها قد يكون إدراك الصدر قبل غيره امتلاك التحالف الثلاثي أغلبية الثلثين الهشّة في الجلسة البرلمانية، وأنّ قرار المحكمة الاتحادية المتّصل بشرط الثلثين في جلسات انتخاب الرئيس وإسقاط الأغلبية المطلقة في الجلسة الثانية، قد يعطيان قوى “الإطار التنسيقي”، بالتحالف مع “حزب الاتحاد الوطني الكردستاني”، قوّة “الثلث المعطّل”، وبالتالي قد تتحوّل العلاقات داخل التحالف الثلاثي إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار عند أيّ منعطف. ولذلك كان خيار مقاطعة هذه الجلسة بالنسبة إلى الصدر هو الأنسب مقابل محاولة إظهاره بصورة المهزوم أو الضعيف.
جاء الانسحاب التكتيكي الذي قاده الصدر من الجلسة البرلمانية، بعد لمسه إمكانية عزله داخل البيت الشيعي، ليفاقم الأثر السلبي لبعض المواقف التي تصدر عن تياره والتي تمسّ أساسات البيت الشيعي
مخاوف الصدر “الضعيف”؟
على الرغم من خطوة الصدر التي تمثّل منفذاً للهروب من هذا الاستحقاق المتأرجح، قد لا يستطيع تغطية عجز التحالف الثلاثي عن ضمان الحصول على ثلثي أصوات البرلمان لاستكمال التركيبة الرئاسية، كما كان يخطّط لها، بأن يستأثر “الديمقراطي” بتسمية رئيس الجمهورية، والصدر بتسمية رئيس الوزراء. من هنا جاء قرار “الديمقراطي” بمقاطعة الجلسة وتضامن تحالف السيادة مع الشريكين.
جاء الانسحاب التكتيكي الذي قاده الصدر من الجلسة البرلمانية، بعد لمسه إمكانية عزله داخل البيت الشيعي، ليفاقم الأثر السلبي لبعض المواقف التي تصدر عن تياره والتي تمسّ أساسات البيت الشيعي، ويجعله من دون ظهير يمكن اللجوء إليه في حال شعر بإمكانية استفراده من قبل الآخرين.
سمحت مخاوف الصدر وقراراته أيضاً للحزب الديمقراطي الكردستاني بالتقاط أنفاسه بعد الصدمة التي أصابته إثر الأمر الولائي للمحكمة الاتحادية بتعليق ترشيح زيباري. بحيث يكون الصدر قادراً على إعادة حساباته داخل البيت الكردي أوّلاً، وعلى مستوى العلاقة مع القوى الأخرى في البيت الشيعي خارج التحالف الثلاثي، خاصة قوى الإطار التنسيقي. ما قد يدفع المكوّن السنّيّ إلى إعادة النظر في آلية تعاطيه مع المكوّن الشيعي، والتداعيات السلبية التي قد تنتج عن انقسام هذا المكوّن والتي سبق أن أشار إليها زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم. وذلك في ظلّ عزوف واضح لإيران، اللاعب الإقليمي المعنيّ أكثر من غيره بالساحة العراقية، عن التدخّل المباشر وممارسة الضغوط على المكوّنات العراقية، وتحديداً المكوّنين الشيعي والكردي، بما يسمح لها بفرض إرادتها كما كانت تفعل في السابق. وذلك باستثناء إبداء الحرص على عدم ذهاب الأمور إلى حدّ التأثير على استقرار العراق الداخلي أو تفجير صراعات دموية في داخل المكوّنات أو فيما بينها، بحيث تتحوّل إلى تهديد لأمنها القومي.
إقرأ أيضاً: العراق يتمرّد: ثلاث لاءات عربية
قد يكون الهدف من هذه الخطوة الاستباقية في مقاطعة الجلسة البرلمانية التي ذهب إليها أقطاب التحالف الثلاثي، سحب ورقة “الثلث المعطِّل” من يد “الإطار التنسيقي”. خاصة في ظلّ صعوبة تأمين أغلبية الثلثين لتمرير القوانين. إلا أنّ هذه التطوّرات أعادت خلط الأوراق لدى جميع الأطراف، أو ساهمت في إنتاج “خلطة عطّار” جديدة قد تحمل قطبيْ المكوّن الكردي على الدخول في حوار داخلي للتوافق على مرشح تسوية للرئاسة في حال حرم القضاء زيباري من الاستمرار في السباق الرئاسي، وقد تجبر الصدر على تقديم تنازلات لم يتعوّد على تقديمها للإطار التنسيقي. وقد تدفع الصدر إلى أن يسقط مطلب إقصاء المالكي عن “الإطار” شرطاً ومدخلاً للتحالف، وبالتالي قد تفتح الباب أمام الذهاب إلى تحالف رباعي (الديمقراطي والسيادة والصدر والإطار) أو خماسي بإضافة “الاتحاد الوطني”، لإعادة إنتاج السلطة وتقاسمها ومحاصصتها بعيداً عن أيّ برنامج حقيقي إنقاذي لإخراج العراق من أزماته المتراكمة والمتفاقمة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.