من الآن إلى نهاية “العهد القويّ”، هذا إذا كان ثنائي العهد، ميشال عون وجبران باسيل، يستطيع تصوّر رئيس الجمهوريّة الحالي خارج قصر بعبدا في نهاية ولايته يوم الـ31 من تشرين الأوّل المقبل، يبدو الوضع اللبناني مقبلاً على مزيد من التدهور. يمكن توقّع مثل هذا التدهور، خصوصاً في ظلّ مزيد من العدوانيّة الإيرانيّة في المنطقة من جهة، ووجود إدارة أميركيّة تلعب دوراً أقرب إلى دور المراقب تجاه ما يدور في العالم من جهة أخرى.
منذ انسحابها من أفغانستان، بالطريقة التي انسحبت بها، كشفت إدارة بايدن أنّها إدارة حائرة. انسحبت هذه الحيرة على المفاوضات التي تدور بين الإدارة و”الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية التي تسعى إلى فرض شروطها على الولايات المتّحدة. يأتي في مقدَّم هذه الشروط غياب الربط بين الاتفاق المتعلّق بالاتفاق النووي الإيراني وسلوك “الجمهوريّة الإسلاميّة” في المنطقة، أي المشروع التوسّعي الإيراني.
كلّما تعقّدت المفاوضات الأميركيّة – الإيرانيّة في فيينا أو غير فيينا، زاد تمسّك إيران بورقة لبنان الذي يعاني من حال انهيار في ظلّ الفراغ السياسي
سينعكس غياب الربط هذا، علماً أنّ مثل هذا الربط ضروري ومنطقي في آن معاً، بين البرنامج النووي الإيراني من جهة، والصواريخ الباليستية الإيرانية والطائرات المسيَّرة والميليشيات المذهبيّة من جهة أخرى، على نحو كارثيّ بالنسبة إلى دولة مثل لبنان.
في وقت تبدو “الجمهوريّة الإسلاميّة” مستعدّة للذهاب إلى أبعد حدود في استخدام أوراقها في المنطقة، يكبر الخوف على لبنان. يعود ذلك إلى أنّ إيران تواجه صعوبات حقيقية في تكريس سيطرتها على العراق. على الرغم من الضغوط التي تمارسها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في العراق، يظهر واضحاً في كلّ يوم يمرّ أنّ هناك مقاومة حقيقيّة للهيمنة التي تحاول فرضها على بلد جار سلّمتها إيّاه إدارة بوش الابن على صحن من فضّة في العام 2003. ليس ما يعبّر عن المقاومة العراقية للهيمنة الإيرانية أكثر من نتائج الانتخابات النيابيّة الأخيرة التي فشل علي قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” في قلبها والحؤول دون ترجمتها على أرض الواقع من منطلق أنّ العراق يظلّ العراق وإيران تبقى إيران.
ليس العراق المكان الوحيد الذي تواجه فيه إيران صعوبات. هناك اليمن أيضاً حيث تلقّى مشروعها ضربة قويّة في ضوء التقدّم الذي حقّقته قوات العمالقة ذات الأكثريّة الجنوبيّة. تمثّلت الضربة في إخراج الحوثيين، الذين ليسوا سوى أداة إيرانيّة، من كلّ محافظة شبوة المهمّة وفي فكّ الحصار الذي كانت “جماعة أنصار الله” (الميليشيات الحوثيّة) تفرضه على مدينة مأرب.
إيران غير مرتاحة في سوريا، خصوصاً أنّ نظام بشّار الأسد بدأ يشعر بفداحة الثمن الذي عليه دفعه بسبب إمساك “الحرس الثوري” به. تتلقّى الميليشيات التابعة لها باستمرار ضربات إسرائيلية. اللافت أنّ إسرائيل لم تعُد تميّز كما كانت تفعل في الماضي بين ميليشيات إيرانيّة وقوات تابعة للنظام. لعلّ الدليل على ذلك استهدافها مرفأ اللاذقيّة أخيراً، إضافة إلى مناطق قريبة من دمشق قبل أيّام قليلة.
في ظلّ هذه المعطيات، يبدو لبنان مكان الاستراحة الوحيد في المنطقة. تمارس فيه هيمنتها بشكل كامل. وقد عبّر رئيس مجلس الوزراء السابق وزعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري عن هذا الواقع بوضوح. كان ذلك في الكلمة المؤثّرة التي ألقاها أخيراً وأعلن فيها “تعليق” نشاطه السياسي وانسحاب تيّاره من الانتخابات النيابيّة المتوقَّعة منتصف أيّار المقبل.
كلّما تعقّدت المفاوضات الأميركيّة – الإيرانيّة في فيينا أو غير فيينا، زاد تمسّك إيران بورقة لبنان الذي يعاني من حال انهيار في ظلّ الفراغ السياسي على أعلى مستوى. من بين أسباب هذا الفراغ غياب أيّ رؤية لدى الثنائي الرئاسي باستثناء كيفيّة استرضاء “حزب الله” ومن خلفه إيران كي يخلف جبران باسيل ميشال عون في قصر بعبدا في يوم من الأيّام…
ليس ما يبشّر بالخير بالنسبة إلى مستقبل لبنان في ضوء تحوّله إلى جرم يدور في الفلك الإيراني، وذلك بغضّ النظر عمّا إذا كانت ستحصل صفقة أميركيّة – إيرانية أم لا قريباً. استطاعت “الجمهوريّة الإسلاميّة” تحويل أزمة لبنان من أزمة نظام وانهيار في كلّ المجالات… إلى أزمة وجوديّة!
تبدو الانتخابات النيابيّة المقبلة محطة لبنانيّة مهمّة، لكنّها غير حاسمة. يعود ذلك إلى قدرة “حزب الله” على استغلال هذه الانتخابات لتكريس شرعيّته بالقوّة، قوّة السلاح وقوّة القانون الانتخابي المعمول به. ستجري هذه الانتخابات، التي يخوضها الحزب كميليشيا مذهبيّة مسلّحة، بموجب قانون عجيب غريب من صنعه أوّلاً وأخيراً.
إقرأ أيضاًً: بعدما صار “المرشد” في طهران… مرجعيّة لبنان
الأكيد أنّ التحالف بين الحزب الاشتراكي و”القوات اللبنانيّة”، أي بين وليد جنبلاط وسمير جعجع، ذو أهمّيّة نظراً إلى أنّه يمكن أن يساعد في جعل الأكثرية النيابيّة عند المسيحيين تخرج من دائرة “التيار العوني” ونوّابه الذين يتنافسون في مجال مَن هو أتفه من الآخَر. كذلك، إنّ هذا التحالف سيمنع أيّ اختراقات درزية ذات شأن. سيظلّ وليد جنبلاط حريصاً على توفير مقعد لطلال أرسلان مهما فعل الزعيم الدرزي الآخر الذي ارتضى أن يكون في مكان آخر معتمداً التمهل البارد في كل ما له علاقة بمقاومة الاحتلال الإيراني. لكنّ ذلك كلّه ليس كافياً نظراً إلى أنّ الانتخابات لن تشمل المناطق الشيعيّة. هذه المناطق أغلقها “حزب الله” بسلاحه وبقانونه الانتخابي كي يؤكّد أنّ لبنان لا يستطيع الإفلات من الأسر الإيراني… أقلّه في المدى المنظور وفي ظلّ توازن إقليمي راهن فرضته “الجمهوريّة الإسلاميّة” عبر ميليشياتها المرتبطة بـ”الحرس الثوري” في ظلّ لامبالاة أميركيّة.