حكاية ولادة الكتاب…

مدة القراءة 5 د

لم يبدأ “الكتاب” بالتكوّن على الصورة التي نعرفها اليوم إلا في القرن الأوّل قبل الميلاد حين أخذت الصفحات شكلها المعروف. أمّا شكل الكتاب ذاته فقد تبلور في القرن الرابع بعد الميلاد. كانت الكلمات متداخلة، بمعنى أنّه لم تكن هناك فراغات بين كلمة وأخرى أو حتى بين سطر وآخر. لكن تغيّر ذلك في القرن السابع بعد الميلاد.

بُعيد ذلك تسارعت التطوّرات. بدأ التطوّر الأوّل بوضع لائحة بالموضوعات. حدث ذلك في القرن الثالث عشر. قبل ذلك كانت الكتب مخطوطات يدويّة فحسب. ولذلك كانت محدودة الأعداد، ومكلفة جدّاً، وكان تداولها محصوراً جدّاً أيضاً. لكن حين اخترع غوتنبرغ الألماني الآلة الطابعة، قلبَ هذه الأوضاع رأساً على عقب.

لم يعد الكتاب ملك الخاصّة فقط، بل أصبح في متناول العامّة أيضاً. حدث ذلك مع بدايات حركة الاعتراض الديني (البروتستانتيّة)، فساعدت الطباعة على نشر أفكار الحركة بين الناس وتسهيل تداولها، مؤدّيةً إلى سرعة تحوّلها من حركة اعتراضية مغلقة فقط إلى حركة تغيير مفتوحة وواسعة الانتشار. فقامت على إثر ذلك الكنيسة الإنجيليّة التي أصبحت اليوم كنائس عديدة.

تبدو مسيرة الكتاب مع الإنسان وكأنّها دخلت مع الاكتشافات الإلكترونية مرحلة جديدة. وهذه المرحلة لا تزال في منطلقاتها التغييرية الأولى

في عام 1470 بدأ للمرّة الأولى ترقيم صفحات الكتاب. وتحتفظ مكتبة “بولدين” الشهيرة بنسخة من أوّل كتاب جرى ترقيم صفحاته.

هكذا أصبحت جمل الكتاب منفصلة عن بعضها وليست متداخلة. وباتت صفحات الكتاب مرقّمة ولم تعد متراكمة. وصار الكتاب ذاته مطبوعاً زهيد الثمن وليس مخطوطاً يعجز الفقراء، وحتّى متوسّطو الحال، عن اقتنائه.. أو الوصول إليه.

في إطار حركة التطوّر استُحدِثَت فكرة محتويات الكتاب. وهدفها تعريف القارئ على الموضوعات التي يتناولها، مثل لائحة الطعام في المطاعم التي تعرّفك على ما يعدّه المطبخ، وتترك لك اختيار ما تريد أن تأكل.. أو أن تقرأ. غير أنّ من مساوئ ذلك أنّ بعض القرّاء أصبحوا يكتفون بقراءة هذه المحتويات، ويعتبرون العناوين في ذاتها مفاتيح المعرفة، بل كلّ المعرفة، وأنّ معرفتك للعنوان وحده تجعلك تعرف كلّ شيء آخر. وهذا وهمْ وقع فيه الكثيرون، ولا يزالون.

 

مدخل القصر… ليس القصر

ليس صحيحاً أنّ المحتويات هي عصارة المواضيع. وليس صحيحاً أيضاً أنّها تحرّر القارئ من أعباء البحث عن المعرفة بين صفحات الكتاب. الصحيح أنّ المحتويات هي مدخل إلى قصر عامر بالتحف وبالجماليّات المعرفية. والمدخل ليس هو القصر.

حتّى الأمس القريب كان البحث عن المعرفة مكلفاً ماديّاً. وكان يتطلّب وقتاً وجهداً. تغيّر ذلك مع الوسائل الإلكترونية الحديثة. فقد أصبح الحصول على المعرفة أسهل وأسرع وأقلّ كلفة وأكثر دقّة. يكفي الضغط على زرّ صغير حتى تقفز المعلومات على شاشة الحاسوب حول أيّ موضوع وحول أيّ قضية، في أيّ وقت من الليل أو النهار (غوغل – ويكيبيديا نموذجاً).

من هنا تبدو مسيرة الكتاب مع الإنسان وكأنّها دخلت مع الاكتشافات الإلكترونية مرحلة جديدة. وهذه المرحلة لا تزال في منطلقاتها التغييرية الأولى. إذ يتحدّث الخيال العلمي الآن عن إمكانية زرع رقاقة “Chips” صغيرة في مخّ الإنسان قد تغنيه في المستقبل القريب عن كتب الدنيا كلّها، بل ربّما تغنيه عن الدراسة أو حتى عن التفكير(؟!) وتدخله إلى عالم (بل عوالم) المعارف العلمية المعقّدة والوثائق التاريخية الشائكة من دون جهد أو عناء.

في عام 1470 بدأ للمرّة الأولى ترقيم صفحات الكتاب. وتحتفظ مكتبة “بولدين” الشهيرة بنسخة من أوّل كتاب جرى ترقيم صفحاته

في تاريخ المعارف الإنسانية كان عقل الإنسان في كلّ مرّة ينفتح على أمر جديد يتعرّض المكتشِف للطعن والتشكّك وحتى للعقاب (قصّة غاليليو في العصر الوسيط، وحتى آينشتاين في العصر الحديث). وكان العقاب، أو التهديد به، يعطّل أو يؤخّر محاولات اكتشاف المجهول لأنّه كان ينقض الوقائع المتعارف عليها التي استقرّت عليها المجتمعات.

خرج الإسلام مبكراً من هذه المعادلة الانغلاقية عندما أوجد معادلة تقول إنّ “من اجتهد وأصاب فله أجران، أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحقّ. ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد لاجتهاده، ولا يؤثم على خطئه”.

ليس صحيحاً أنّ ذلك اقتصر على الاجتهاد الديني، لكنّه كان مفتوحاً على كلّ الاجتهادات العلمية أيضاً. ولذلك برع العلماء المسلمون الأوّلون في علوم الطبّ والفلك، واعتُمدت كتبهم العلمية (ابن سينا وابن الهيثم مثلاً) مراجع للفكر الإنساني.

أين كان الإنسان قبل اختراع الكتابة؟ وأين كان قبل صناعة الطباعة؟ وإلى أين يتوجّه الإنسان اليوم بعد سلسلة الاكتشافات الإلكترونية الحديثة وتسارع تطوّرها؟

لكي نرسم الصورة التي سيكون عليها إنسان القرن الخامس والعشرين، يُفترض أن نستعيد صورة إنسان القرن الخامس، بل حتّى إنسان القرن الخامس عشر!!

إقرأ أيضاً: المرأة وحقوق الإنسان

ومن يدري فليس الكتاب وحده الذي يتغيّر. إنّ الكوكب الذي يعيش فيه إنسان الغد يتغيّر أيضاً. لقد دخل مراحل متقدّمة في تغيّره، ليس من حيث المناخ فقط، وهذا أمر مهمّ وخطير، لكن من حيث اكتشاف المزيد من أسرار الكون المؤتمَن عليه.

وكما هي فصول رحلة اكتشاف المتغيّرات في الكتاب، كذلك تبدو فصول رحلة اكتشاف عوالم الفضاء.

{علّم الإنسان ما لم يعلم} [سورة العلق، 5].

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…