ليس السؤال: هل هناك داعشيون في طرابلس؟
السؤال هو: من أرسل شباب طرابلسيين إلى العراق، ليقتلوا ويُقتلوا هناك؟ ومن أجل أيّ قضية؟ وبأيّ إغراءات؟ ومن سهّل لهم طريق الخروج؟ والأهمّ: من الذي يتّصل بهؤلاء ليخوّفهم ويدعوهم إلى الخروج من لبنان فوراً قبل أن يتم اعتقالهم؟ إلى درجة أنّ واحداً من بينهم ترك زفافه، الذي كان مقرّراً بعد أسبوعين من تاريخ اختفائه، والتحق بداعش، ليعلن عن مقتله أمس.
وفق المعلومات التي حصل عليها “أساس” فإنّ معظم الشبّان المهاجرين هم من روّاد بعض المقاهي الشعبية التي تزخر بمُخبري الأجهزة الأمنيّة
هجرة العريس!
عمر سيف هو هذا العريس. وهو أحد الشبّان الذين ذكرهم بيان “خليّة الإعلام الأمني في العراق” أمس، باعتباره أحد ثلاثة لبنانيين قتلوا في ضربة جويّة نفّذها الجيش العراقي على أحد معاقل داعش في محافظة ديالى (شرق بغداد)، ردّاً على العمليّة التي نفّذها التنظيم الإرهابي ضدّ كتيبة من الجيش العراقي منذ أيّام قليلة. البيان ذكر أنّ هؤلاء جاؤوا “من منطقة وادي النحلة في شمال لبنان”. إلى جانب ثلاثة آخرين تبلّغ أهاليهم خبر مقتلهم عن طريق تسجيل صوتي لامرأة عراقية، عبر تطبيق “واتساب”، من رقم هاتفي عراقي، تذكر فيه أسماء الشبّان الستّة، وأنّهم قُتلوا نتيجة الضربة الجوية للجيش العراقي، بحسب المحامي محمد صبلوح في حديث لـ”أساس”. هو المتخصّص في قضايا الإسلاميين، والذي يتابع قضيّة هجرة هؤلاء الشبّان منذ بدايتها.
عمر اختفى بشكل مفاجئ، بعدما كان يستعدّ لحفل زفافه، الذي كان يفترض أن يتمّ بعد أسبوعين فقط من تاريخ اختفائه.
تُرى ما الذي يدفع شابّاً يعيش أجمل لحظات حياته، ويتهيّأ لبناء عائلة مع رفيقة العمر، إلى أن يترك كلّ شيء ويسافر خفيةً من أجل الالتحاق بداعش؟
الجواب حسب معلومات “أساس” هو أنّ عمر الذي سبق له أنْ اختبر الاعتقال بتهمة الإرهاب، وقاسى ما قاساه من وجبات التعذيب داخل السجن، تلقّى اتصالات أكثر من مرّة من مصدر مجهول يحذّره من أنّ الأجهزة الأمنيّة ستعتقله من جديد بتهمة الإرهاب، ويدعوه إلى الهروب عاجلاً من لبنان. وهو ما أكّده أيضاً المحامي صبلوح.
فمَن هو هذا المصدر؟ وهل اطّلعت الأجهزة الأمنيّة على داتا الاتصالات الخاصّة بهؤلاء الشبّان؟ وهل من تحقيق في الأصل؟
يضيف صبلوح أنّ والدة عمر، التي سبق له التواصل معها من رقم عراقي، كانت تحاول الاطمئنان عليه برسالة عبر تطبيق “واتساب” فأتاها الردّ الصادم بأنّ ولدها قُتِل.
عيون الأجهزة
وفق المعلومات التي حصل عليها “أساس” فإنّ معظم الشبّان المهاجرين هم من روّاد بعض المقاهي الشعبية التي تزخر بمُخبري الأجهزة الأمنيّة. فهل من الممكن أنْ تحدث الهجرة المتدرّجة هذه، التي لا تزال مستمرّة على قدم وساق حتى الساعة، من دون علم الأجهزة الأمنيّة؟ أم أنّ أطرافاً فاعلة في السلطة، تعمل على تسهيل هذه الهجرة عبر تقاعس أجهزتها، من أجل تهيئة الأجواء أمام إعادة بعبع داعش مرّة جديدة و”كيّ” مدينة طرابلس بـ”نار الإرهاب” خدمةً لأهداف سلطوية قد يكون من بينها تطيير الاستحقاق الانتخابي؟
من جانب آخر، وعلى الرغم من مأساويّة الحدث، إلّا أنّه في الوقت نفسه يُكذِّب كلّ السيناريوهات التي روّج لها إعلام الممانعة، حول إعداد هؤلاء للقيام بعمليّات داخل الأراضي اللبنانية، وخاصة مدينة طرابلس. سيناريوهات تنطلق من خبرة مروّجيها بشؤون داعش وشجونه، وأنّه لا يقوم بتجنيد شبّان في مقتبل العمر وعديمي التجربة القتالية، إضافة إلى الاتّهامات الكلامية غير المستندة إلى أدلّة أو معطيات صلبة عن دور خليجي، في حين أنّ كلّ المؤشّرات تشير إلى مستفيد نهائي واحد من كلّ ما يحصل، وهو المشروع الإيراني في المنطقة وفي لبنان، الذي يصرّ على تقديم السنّة باعتبارهم “إرهابيين”.
دعشنة طرابلس
يأتي هذا التطوّر بعد تقارير إعلاميّة مكثّفة راجت أخيراً، سواء في الإعلام المحلّي أو الدوليّ، أكّدها وزير الداخلية بسام المولوي في حديث مع برنامج “صار الوقت” على mtv قبل أسبوعين، عن هجرة 34 شاباً من شمال لبنان إلى العراق، من أجل القتال في صفوف تنظيم داعش. أواخر الشهر الماضي تلقّى الشارع الطرابلسي الصدمة الأولى بخبر مقتل اثنين منهم، ثمّ كانت الصدمة الثانية يوم السبت مع انتشار خبر مقتل ستّة دفعة واحدة. وانتشرت فيديوات قيل إنّها توثّق لحظة قصفهم وقتلهم.
ينتقد صبلوح غياب “الدولة” عما يجري: “لم يحدث أيّ تواصل بين الدولة أو الأجهزة الأمنيّة، وأهالي هؤلاء الشبّان. ولم يحصل تواصل أيضاً قُتل شابّان، واحد من آل العدل وآخر من آل كيالي، الشهر الماضي”.
ويعلي الصوت: “الدولة لا تُبدي أيّ اهتمام بهذه القضية، ما خلا الجملتين اليتيمتين اللتين أجاب بهما وزير الداخلية ردّاً على سؤال الأستاذ مارسيل غانم، عندما تحدّث عن “فرار 34 شابّاً”، وقال إنّه لا يملك “قاعدة بيانات مفصّلة تتعلّق بهذا الموضوع، ولا سيّما من ناحية العدد”.
يأخذ صبلوح المسألة إلى ما هو أبعد من غياب التواصل: “الدولة وأجهزتها تتعمّد تجاهل القضية، الأمر الذي يثير الكثير من الريبة وعلامات الاستفهام عن دور بعض الأجهزة الأمنيّة في التغطية على “الهروب” أو “الهجرة الشبابية” إلى داعش. هذا وقد تمّ تهريب معظم هؤلاء الشبّان من الجانب العكّاري من الحدود، واتّجهوا صوب العراق عبر المدن التي يسيطر عليها النظام السوري وأجهزته الأمنيّة”.
هنا يتحدّث صبلوح عن “غرف سوداء تتولّى تجنيد الشباب الطرابلسي، مستغلّةً في ذلك حالة الفقر المدقع التي يعانون منها، والأهمّ التخويف بالاعتقال من قبل الأجهزة الأمنيّة بتهمة الإرهاب، فيندفعون إلى القبول بما يُطلَب منهم، ولا سيّما أنّ من بينهم مَن سبق له أن اختبر الاعتقال والتعذيب في السجون اللبنانية بتهمة الإرهاب”.
هكذا يشير صبلوح بأصابع الاتهام إلى “أجهزة لبنانية” لها مصلحة ولها يد طولى في شوارع طرابلس، وعلى الحدود، ويتّهمها بأنّها تسهّل خروج هؤلاء إلى سوريا والعراق.
يشير صبلوح بأصابع الاتهام إلى “أجهزة لبنانية” لها مصلحة ولها يد طولى في شوارع طرابلس، وعلى الحدود، ويتّهمها بأنّها تسهّل خروج هؤلاء إلى سوريا والعراق
أين الرواية الرسميّة؟
يوجد في أروقة الشارع الطرابلسي العديد ممَّن يوجّهون إلى الأجهزة الأمنيّة أصابع الاتّهام بالتواطؤ على مدينة طرابلس وشبابها، وهو ما يظهر أيضاً في معظم التغريدات والتدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي.
من بين الأحاديث المتداوَلة بكثافة أنّ الأجهزة الأمنيّة لا تنفكّ تصدر بيانات مطوّلة ومفصّلة عن حوادث السير وعدد الضحايا، وعن جرائم السرقة والقتل التي يتمّ اكتشافها كلّ يوم، لكن أين هي من قضية هؤلاء الشبّان، الذين بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على بداية هجرتهم، لا يوجد أيّ بيان رسميّ عن عددهم، على الأقلّ، مع أنّ عدداً من أهالي الشبّان تخلّوا عن تحفّظهم وأبلغوا الأجهزة الأمنيّة باختفاء أبنائهم، وبالمعلومات التي حصلوا عليها حول وجهتهم، وراجعوهم مرّات كثيرة من دون فائدة تُذكر.
في حين يبدو التنسيق الرسمي بين الحكومتين اللبنانية والعراقية في أعلى مستوياته، ويشمل الكثير من مناحي الحياة، بدءاً من الفيول العراقي، مروراً بشهادات التعليم الجامعي اللبنانية المزوّرة، وصولاً إلى الزيارات اللبنانية الرسمية العديدة لبغداد. فقد زار بغداد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أواخر تشرين الأول الماضي، ثم قصدها وزراء في حكومته، وآخرهم وزير الدفاع موريس سليم الذي وقّع مذكّرة تفاهم وتعاون بين وزارتيْ الدفاع في كلا البلدين في 28 كانون الأول المنصرم.
إقرأ أيضاً: من “يُحضِّر” الأرواح الداعشيّة في لبنان؟
فهل أثار الوزير سليم مع المسؤولين العراقيين، الذين كان من بينهم مستشار الأمن القومي العراقي، وهو أرفع منصب أمنيّ عراقي، هذه القضية الحسّاسة. وهل طلب منهم التعاون لحلّها، ولا سيّما أنّه كان على رأس وفد من وزارة الدفاع لا شكّ أنّه يملك الكثير من المعطيات الدقيقة عن هجرة الشباب الطرابلسيّ.
في الأمر “إنّ” كبيرة. والأيام مطحنة الكذب.