أقرب إلى الاستغباء، جاء ردّ السُّلطات اللبنانيّة على الورقة الخليجيّة بحسب ما نقلت وكالة “رويترز” منتصف ليل أمس. إذ أكّد الجواب أنّ “لبنان لن يكون منطلقا للتحركات التي تمس بالدول العربية” والحكومة ملتزمة بسياسة النأي بالنفس” وأنّ الحكومة اللبنانية تقول في رسالة لدول الخليج إنّ لبنان يحترم كافة قرارات الشرعية الدولية “بما يضمن السّلم الأهلي والاستقرار”.
البنود التي اعتبرها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مُجرّد “أفكار” وليسَت شروطاً، يجعلها هذا الردّ تبدو وكأنّ الدّول العربيّة تريد الاعتداء على لبنان. فيما العكس هو الصّحيح، لأنّ الاعتداء على الدّول العربيّة والخليجيّة يخرج من لبنان.
بالطّبع المقصود بعبارة “ما يضمن السّلم الأهليّ” هو الاعتراض على المُطالبة بتطبيق قرار مجلس الأمن الدّولي 1559باعتبار أنّ أدبيّات حزب الله وحلفائه لطالما اعتبرته قراراً مُعادياً للاستقرار وللسّلم الأهلي وكان حُجّةً لاغتيال الرّئيس رفيق الحريري.
تضمّ لائحة الشّروط الخليجيّة 10 بنودٍ، لكنّ الأساس فيها النّقاط المُتعلّقة بأمن الخليج بشكلٍ مباشر أو غير مباشر
هكذا… سقطَ لبنان في الامتحان العربيّ الأخير. إذ أعلن أنّه لا يُمانع تطبيق كُلّ بنود الورقة ذات الشّروط الـ10، إلّا ما خصّ “زُبدتها”، أي القرار 1559.
اليوم سيحملُ وزير الخارجيّة عبد الله بو حبيب الرّدّ إلى العاصمة الكويتيّة، حيثُ سيُشارك في الاجتماع الوزاريّ العربيّ ويُجيب على البنود الـ10.
الأخطر في الرّد اللبنانيّ أنّه ليسَ مُنبثقاً عن السّلطة التنفيذيّة، مُتمثّلةً بمجلس الوزراء، وذلك بعد رفضِ حزب الله طرحَ بنود الورقة التي حملها وزير الخارجيّة الكويتيّ أحمد ناصر المحمّد الصّباح، مبعوثاً من دول مجلس التّعاون الخليجيّ، إلى بيروت الأسبوع الماضي.
ماذا في الجواب اللبنانيّ؟
علمَ “أساس” من مصادر سياسيّة مُطّلعة أنّ مشاوراتٍ جرَت في الأيّام الأخيرة بين رئيسيْ الجمهوريّة ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجيّة عبد الله بو حبيب، لدرس مقترح قدّمه الأخير مفاده أن يعرضَ لبنان على الدّول العربيّة تشكيلَ لجانٍ مُختصّة لمُتابعة تطبيق بنود “الورقة”. وأبرزها ما تقترحه من إعادة لبنان النّظر بموضوع الاستراتيجيّة الدّفاعيّة، على اعتبارها مخرجاً لملفّ سلاح حزب الله.
وبحسب ما نشر في صحف الأمس، فقد أضافَ الرئيس عون بعض المُلاحظات على “ورقة بو حبيب”. وبحسب المعلومات فإنّ مُلاحظات القصر الجمهوريّ حظِيَت بموافقة رئاسة الحكومة. وهي لم تكُن إلّا قذفاً للمسؤوليّة عن كاهل لبنان الرّسميّ.
ما هو جواب بعبدا؟
علم “أساس” أنّ “جواب بعبدا” تضمّن الآتي:
1- حمّل رئيس الجمهوريّة العدوّ الإسرائيليّ مسؤوليّةً التقصير بتطبيق القرار 1701، إذ اعتبرَ أنّ الخروقات الإسرائيليّة المُستمرّة في البرّ والبحر والجوّ تُعطي الذّريعة للبنان في التّقصير بتطبيقه. وذكّر الدّول العربيّة بمواقفها الدّاعمة للبنان فيما خصّ إدانة الخروقات الإسرائيليّة للقرار الدّوليّ والسّيادة اللبنانيّة.
2- أمّا عن تطبيق القرار 1559، فاعتبرت دوائر القصر الجمهوريّ أنّه أكبر من طاقة لُبنان، وأنّ سلاح الحزب وتدخّله بشؤون الدّول العربيّة مرهونٌ بالصّراعات الإقليميّة، و”لا ناقة ولا جمل” للبنان الرّسميّ بهذا الشأن الذي لا يستطيع التّأثير به سلباً أو إيجاباً. لكن لبنان الرّسميّ سيُطبّق ويلتزم سياسة النّأيّ بالنّفس عن صراعات المحاور.
3- أمّا البنود المُتعلّقة بالإصلاحات والانتخابات النّيابيّة والرّئاسيّة وتطبيق اتفاق الطّائف، فالرّد اللبنانيّ سيكون إيجابيّاً ويعبّر عن التزام لبنان الرّسميّ بإجراء الاستحقاقات الدّستوريّة في موعدها والتّعهّد بتطبيق الطّائق تطبيقاً كاملاً.
رست الورقة أخيراً في عين التّينة، حيث تلقّى رئيس مجلس النّوّاب نبيه برّي نسخةً من ورقة “الجواب اللّبناني” مساءَ الخميس من الوزير بو حبيب، فكانت الورقة أمس لا تزال قيدَ الدّرس، حتّى ساعة كتابة هذا التّقرير.
ما في عين التينة؟
تشير معلومات “أساس” إلى أنّ أجواء عين التّينة ليسَت بعيدة عن أجواء بعبدا فيما يخصّ القراريْن 1559 و1701 على اعتبار أنّ موضوع نزع سلاح الحزب أكبر من أن يتحمّله لبنان، مع التوافق على تحميل العدوّ الإسرائيليّ مسؤوليّة خرق الـ1701 باستمرار.
تقول مصادر الرّئاسة الثّانية لـ”أساس” إنّ مسألة إخلاء جنوب الليطاني من السّلاح “هو شأنٌ لبنانيّ تجاه العدوّ الإسرائيلي وليسَ موجّهاً ضدّ الدّول العربيّة إطلاقاً”. وذلك في ردّ على مطالبة “الورقة” بتنفيذ القرار 1701.
ورقة بو حبيب، التي لن تصدر عن الحكومة اللبنانيّة، تتحدّث عن حرص الدّولة اللبنانيّة على العلاقات التّاريخيّة مع دول الخليج العربيّ، وتؤكّد التزام السّلطة السّياسيّة في بيروت بكلّ ما يصدر من قراراتٍ عن جامعة الدّول العربيّة والأمم المُتّحدة، بحسب معلومات “أساس”. كما تتضمّن تأكيداً على أنّ الأجهزة الأمنية في لبنان عملت وتعمَل على حماية الدّول العربيّة والخليجية، وتُطوِّر جهود التنسيق في ما يخصّ مسألةَ تهريب المخدِّرات. وأُرفِقَت بورقة الإجابة لائحةٌ بالعمليّات اللبنانيّة الأمنيّة، موثّقةً بالتّواريخ والأرقام، التي منعَت تصدير شحناتٍ ضخمة من المُخدِّرات نحو الدّول العربيّة، وخصوصاً الخليجيّة.
“أساس” حاولَ التّواصل مع وزير الخارجيّة لسؤاله عن “الجواب اللبنانيّ”، إلّا أنّه لم يُجِب على الاتصال.
لبنان في الزّاوية
إذاً صارَ لبنان في “خانة اليك”. ولن تكون مقبولة الإجابات “الرّماديّة” وذرّ الرّماد في العيون عبر الشّعارات اللبنانيّة التي اعتادت عليها عواصم الخليج العربيّ. والورقة وضعت لبنان أمام خيارين: إمّا أن يُعلنَ أنّه دولة طبيعيّة لا تنسلخ عن مُحيطها العربيّ وهويّتها، وإمّا أن يُقرّر بنفسه رسميّاً عجزه وانسلاخه عن المُحيط العربيّ وانضمامه إلى الإمبراطوريّة الفارسيّة. وعلى ذلك ستُبنى القرارات العربية لاحقاً.
خلال الأيام الماضية، أسرّت أوساطٌ دبلوماسيّة سعوديّة لـ”أساس” إلى أنّها لم تكن تتوقّع أن يكون الجواب اللبنانيّ “مناسباً”، لأنّ “إيران لا تُريد له النجاة”، على حدّ وصف المصادر.
هنا يمكن الإشارة إلى 4 “إجابات استباقيّة” تزامنت مع زيارة وزير الخارجيّة الكويتيّ الشّيخ أحمد ناصر المحمّد الصُّباح إلى بيروت:
أوّلاً: قصفت ميليشيات الحوثيّين العاصمة الإماراتيّة أبو ظبي ومناطق جنوب المملكة العربيّة السّعوديّة تزامناً مع مُغادرة وزير الخارجيّة الكويتيّ الأراضي اللبنانيّة. ما يعني رفض التهدئة في الإقليم.
ثانياً: أحبطت شعبة المعلومات شحنة تحتوي كميّة ضخمة من حبوب الكبتاغون مخبّأة في 7 أطنان من الشّاي الموضب في صناديق من الكرتون انطلقَت من مرفأ بيروت إلى المملكة العربيّة السّعوديّة. ما يعني استمرار مسار عمليات التهريب بشكل كبير.
ثالثاً: صوّبت قناة المنار التّابعة لحزب الله سهامها نحو قرارات جامعة الدّول العربيّة التي تُدين عُدوان الميليشيات الحوثيّة على السّعوديّة والإمارات. ما يعني رفض التهدئة الإعلامية.
رابعاً والأهمّ: رفض حزب الله مُناقشة الورقة الخليجيّة على طاولة مجلس الوزراء باعتبارها “إذعاناً” لدول الخليج. ولذلك لن يكون الجواب اللبنانيّ مُنبثقاً عن الحكومة اللبنانيّة مُجتمعةً، بل عن وزارة الخارجيّة بالتّنسيق مع رئيسيْ الجمهوريّة والحكومة. ما أشّر إلى رفض التعامل مع الورقة في المؤسسة الرسمية المعنية.
سقطَ لبنان في الامتحان العربيّ الأخير. إذ أعلن أنّه لا يُمانع تطبيق كُلّ بنود الورقة ذات الشّروط الـ10، إلّا ما خصّ “زُبدتها”، أي القرار 1559
ماذا انتظر الخليجيون؟
“الجواب” يعني أنّ لبنان يُحاول أن يشتري الوقتَ وأن يلعبَ بين سطور الإجابات، إلّا أنّ السّعوديّة، ومعها دول مجلس التّعاون قاطبةً، كانت تنتظر أجوبةً شافيةً واضحةً لا لَبْسَ فيها، ولا مجال لشراء الوقتِ، إذ إنّ الخليج صبرَ على لبنان أكثر من 6 سنوات، ولن يصبرَ أكثر بعدما صارَ لبنان خطراً على الأمن العربيّ والأمن الخليجيّ.
تضمّ لائحة الشّروط الخليجيّة 10 بنودٍ، لكنّ الأساس فيها النّقاط المُتعلّقة بأمن الخليج بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وهي:
أوّلاً: الالتزام بتطبيق القرارات الدّوليّة، ولا سيّما القراريْن 1559 و1701، والبنود المُتعلّقة بنزع سلاح الميليشيات، وشجب تدخّل حزب الله في شؤون الدّول العربيّة.
يقول مصدرٌ دبلوماسيّ خليجيّ لـ”أساس” إنّ دُول مجلس التّعاون لا تطلبُ مُستحيلاً من الحكومة اللبنانيّة، وطلباتها واقعيّةٌ وتُدرِكُ أنّ الحكومة لا تستطيع أن تنزَع سلاحَ حزب الله، لكنّها تستطيع العمل بشكلٍ جدّيّ على آليّات وضعه تحت كنف الدّولة.
ويشير المصدر إلى أنّ الحكومة كان بمقدورها أن تُعلنَ رسميّاً رفضها التّامّ لأنشطة حزب الله العابرة للحدود، ولاعتداءاته على الدّول العربيّة، وخصوصاً المملكة العربيّة السّعوديّة ودولة الإمارات.
ومن هذا المُنطلق يُريدُ الخليج من لبنان أن يُعلن التزامه الكامل بالمواقف الصّادرة والتي ستصدر عن جامعة الدّول العربيّة في ما يتعلّق بتدخّل حزب الله في شؤون الدّول العربيّة، وبالقرارات التي تتعلّق بميليشيات الحوثيّين من دون أيّ تردّدٍ أو تحفّظٍ.
ويلفت المصدر إلى أنّ دول مجلس التّعاون كانت تتوقّع من لبنان الالتزام بمُلاحقة كُلّ مَن يُسيء إلى الدّول العربيّة على أراضيه، ويضيف مُستغرِباً: “هل ستقول لنا الدّولة اللبنانيّة إنّها لا تستطيع أن تُطبّق حتّى القوانين اللبنانيّة التي تُجرّم التعرّض للدّول العربيّة؟”.
انطلاقاً من الإجابة اللبنانيّة على هذه النّقطة تحديداً، سيُبنى على الشّيء مُقتضاه، وسيتّضح إن كان لبنان الرّسميّ يتمايز حقيقةً عن حزب الله أم لا. وبحسب المصدر أنّه إن كان الجواب اللبنانيّ سلبيّاً أو حتّى “رماديّاً على الطّريقة اللبنانيّة” في هذه النّقطة، فعندئذٍ لا يُمكن لدول مجلس التّعاون أن تفصلَ بين لبنان الرّسميّ وحزب الله، وسيكون لبنان أمام باكورة إجراءات ستُتّخَذ على صعيد مجلس التّعاون الخليجيّ.
لم يشأ المصدر ذكرَ الإجراءات بالتّفصيل، لكنّه أشارَ إلى أنّ الإجراءات ستشمل كلّ ما هو ضروريّ لحماية مصالح دُول الخليج العربيّ، على الصّعد السّياسيّة والأمنيّة والماليّة وحتّى الاقتصاديّة. وأعادَ التأكيد أنّ مصالح اللبنانيين المُغتربين في الخليج لن تُمسّ إطلاقاً.
ثانياً: وقف تهريب المُخدِّرات إلى الدّول العربيّة، وتحديداً دول الخليج. وعن هذه النّقطة يذكر المصدر لـ”أساس” أنّ ما يريده الخليج من لبنان هو تشديد المُراقبة على المعابر الحدوديّة والموانئ، وإغلاق المعابر غير الرّسميّة بين لبنان وسوريا، والتنسيق استخباريّاً وأمنيّاً مع الدّول الخليجيّة، عبرَ نظام لتبادل المعلومات الأمنيّة بين دول مجلس التعاون والحكومة اللبنانية، لضرب مُحاولات التّهريب وشبكاته وعناصره استباقيّاً.
يقول المصدر لـ”أساس” إنّ عدَم مُلاحقة السّلطات اللبنانيّة لشبكات التّصنيع والتوضيب والتّهريب، واكتفاءها في أكثر الأحيان بضبطِ المُخدِّرات من دون القبض على أصحاب الشّحنات، يُعدّان بالنّسبة إلى الرّياض وعواصم الخليجِ تقاعساً عن حماية أمن المُجتمعات والشّباب الخليجيّ. وقال إنّ هذا التّقاعس سيضرّ حتماً بسمعة السّلع اللبنانيّة التي صارت تُشكّل خطراً على الأمن الخليجيّ، وقد تتّخذ دول الخليج إجراءات بهذا الخصوص في حال لم تقُم السّلطات اللبنانيّة بما يلزم.
ثالثاً: تطبيق اتفاقِ الطّائف بالكامل، وخصوصاً ما يتعلّق فيه بـ”بسط سيطرة السّلطات الرسمية اللبنانية” ونزع سلاح الميلشيات وتأكيد مدنيّة الدّولة. وتُؤكّد الدّول العربيّة ضرورة التزام لبنان إجراء الانتخابات النّيابية في شهر أيار المُقبِل، ثمّ الرئاسية في الموعد المُقرّر من دون تعديل.
رفض أميركي؟
من جهة أخرى، لم تبقَ الورقة الخليجيّة في رحاب لبنان، إذ كانت من الملفّات التي بحثها وزير الخارجيّة الكويتيّ مع نظيره الأميركيّ أنتوني بلينكن يوم الأربعاء الماضي في واشنطن.
إقرأ أيضاً: أجواء الحزب: المبادرة الكويتية – الخليجية 17 أيّار جديداً
وكشفَت مصادر وزارة الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس” أنّ الوزيريْن تناقشا في الورقة الخليجيّة والملفّ اللبنانيّ، وإن لم يرد ذكر لبنان في المؤتمر الصّحافيّ المُشترك. وقالت: “إنّ وجهات النّظر بين الوزيريْن كانت مُتطابقة في أكثر بنود الورقة، خصوصاً في ما يتعلّق بسلاح حزب الله والملفّ اليمنيّ وتطبيق القرارات الدّوليّة”. وأكّد بلينكن لنظيره الكويتيّ “حرصَ بلاده على استقرار لبنان وضرورة دعم الجيش اللبنانيّ”.
اليوم يومُ الامتحان، ولا يبدو أنّ لبنان سيُسجّل علامةَ نجاحٍ أمام مُمتحنيه العرب… ولكن للرّسوب تبعات حتميّة…