لبنان والعراق (2/2): إيران انتصرت على الربيع العربي

مدة القراءة 9 د

في الجزء الأوّل من هذا التقرير أمس، عرض الدكتور زياد ماجد كيفية اندلاع الفتنة السنية – الشيعية في المنطقة العربية، خصوصاً من لبنان إلى العراق، وبينهما سوريا، منذ إسقاط صدّام حسين إلى ثورتي تشرين في بيروت وبغداد.

في الجزء الثاني والأخير، يستعرض الدكتور ماجد كيف تحوّل المشهد من ثورات إلى جهادية سنيّة بمواجهة جهادية شيعية، ثم ثورات مضادّة وانفلاش إيراني على أنقاض هذه الثورات.

 

في سنة 2011، اندلعت الثورات العربية ضد الاستبداد في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، ثم وصلت إلى سورية حيث النفوذ الإيراني الواسع. وترافق الأمر مع تجاذبات وخلافات عراقية بشأن خطة الرئيس الأميركي باراك أوباما لسحب قوات بلده، وأيضاً مع تحولات داخل خريطة القوى الجهادية في العراق وبدء صعود أبو بكر البغدادي وتوسّع المعارك بين مقاتليه وقوات الأمن العراقية والميليشيات الشيعية.

بدأت تطورات مهمة تلوح في المنطقة ابتداء من أواخر سنة 2018، ثم طوال سنة 2019. فالثورات العربية التي هُزمت بين سنتَي 2012 و2015 نتيجة الثورات المضادة والعنف والانقلابات تجددت في دول لم تعرف الموجة الأولى

ما جرى بعد ذلك بات معروفاً: انفلات هائل للعنف، وقمع النظام في سورية للمنتفضين عليه، ما حوّل الثورة إلى كفاح مسلح… وتقدم قوات البغدادي في العراق تحت مسمى “دولة العراق الإسلامية”، وهو أوجد – في موازاة المواجهة المركزية في سورية بين النظام المدعوم إيرانياً وروسياً والمعارضات التي حصلت على مساعدات غربية وخليجية وتركية – مواجهات بين جهاديتين:

– جهادية سنّية تحلقت حول “الدولة الإسلامية” التي تمددت ابتداء من سنة 2013 داخل الأراضي العراقية والسورية وأعلنت قيام الخلافة، بعد عام من الاستيلاء على الموصل، باحتلالها وسط العراق وبعض غربه وشماله وشرق سورية وبعض شمالها وضمّها إلى صفوفها “مهاجرين” من عشرات الجنسيات.

– جهادية شيعية شملت حزب الله اللبناني وعدداً من الميليشيات العراقية (عصائب أهل الحق، وأبو الفضل العباس، والنجباء وغيرها) وفصيلَي فاطميون الأفغاني وزينبيون الباكستاني المقاتلَين بإمرة فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.

تسبب تهديد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) للحكم العراقي الجديد وللوحدات الكردية (المتباينة سياسياً في العراق وسورية)، فضلاً عن استمرار توسع سيطرته الترابية في البلدين، بإعلان “الجهاد الكفائي” الشيعي (من النجف) وتشكيل قوات الحشد الشعبي، ثم إعلان واشنطن الحرب عليه بعد إعدامه صحافياً أميركياً، متعاونة مع الإيرانيين والقوى الموالية لهم في العراق ومكتفية بدعم الأكراد لقتاله في سورية، ومتخلية بالتالي عن بلورة مقاربة سياسية للمسألة السورية بعد تراجعها عن خطّها الأحمر الكيماوي قبل ذلك بعام. وفسح هذا التخلي المجال أمام روسيا في سنة 2015، للتدخل عسكرياً وإنقاد نظام الأسد المتهالك في دمشق.

تركت هذه المعطيات كلها، ومعها عمليات القتل والتهجير والفرز الديموغرافي المذهبي في العراق وسورية ووصول مئات الآلاف من اللاجئين إلى لبنان، آثاراً لن تُمحى حتى على المدى البعيد. فإيران خلقت بنى عسكرية وثقافة ميليشياوية بإمرة حرسها الثوري، منتزعة في الوقت نفسه اتفاقاً نووياً مع واشنطن ترافق مع رفع متدرج للعقوبات عنها، ووصلت في تمددها إلى اليمن حيث دعمت الانقلاب الحوثي على المسار السياسي في سنة 2014، ما سمح لطهران باستنزاف السعودية على حدودها الجنوبية، وتحكّمها في أمن البحر الأحمر في موازاة التحكم في أمن مضيق هرمز.

 

اليمن والإمارات والسعودية

وإذ شنّت الرياض وحليفها الإماراتي حرباً شاملة على الحوثيين ابتداء من سنة 2015، فإنها لم تستطع حسم الصراع بعد أن ارتبكت وخرجت من مشروع تعديل موازين القوى في لبنان، وانكفأت من سورية بفعل التدخل الروسي، وصار رهانها الوحيد هو على التصعيد الأميركي ضد الإيرانيين بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً في سنة 2017، وانقلابه على الاتفاق النووي معهم وإعادته العقوبات الاقتصادية على طهران.

لبنان والعراق، باتا مع سورية، عرضة لإعادة تشكيل مجتمعي ديموغرافي، وأنّ حدودهما مشرعة على جملة عوامل قد تبدّل من معالمهما نتيجة الاحتلالات في سورية، وتفكك الدولة في لبنان

وعلى الرغم من بعض محاولات إحداث مصالحات وطنية في العراق، فإن ضراوة الحرب على “الدولة الإسلامية” ثم هزيمتها، ولّدتا خراباً سياسياً ومذهبياً إضافياً جرّاء تكشّف فظائع ما ارتكبه جهاديو “الخلافة”، ونتيجة العمليات الانتقامية التي تلت سقوطهم، وكذلك نتيجة رفض الميليشيات الشيعية التخلي عن سلاحها وبقاء بعضها خارج المنظومة الأمنية والعسكرية العراقية التي أُعيد تركيبها لتشمل جميع القوى التي قاتلت “الخلافة”. كما أن التفاوتات الاقتصادية، والفساد المستشري داخل النخب السياسية والاقتصادية الجديدة (أو القديمة المتجددة)، فاقما من أزمة البلد الذي استمرت المسألة الكردية فيه من دون حلّ رسمي نهائي بعد تراجع الأكراد عن استفتاء الاستقلال، على الرغم من وجود جميع المؤسسات الضرورية لبناء الدولة المستقلة.

وفي سورية، تواصل انتشار الجهاديين الشيعة بإمرة إيران، وبات تعرّضهم لقصف دوري إسرائيلي – تُجيزه موسكو – مؤشراً إلى رغبة روسية في إخراجهم بالتدريج من دون التضحية بالتحالف مع إيران، ووفق أجندة باتت تركيا شريكاً في التعامل معها بعد انتشار قواتها في الشمال الغربي السوري، بما أبقى للمعارضات السورية منطقة وحيدة للحركة بعد خسارتهم جميع المناطق لمصلحة الروس والإيرانيين وقوات النظام.

أمّا لبنان، فإن أعواماً متواصلة من التأزم السياسي والمذهبي وانتشار شبكات النهب والفساد، ومن الصراعات الإقليمية المتسببة بتهجير واسع نحو أراضيه وبتراجع النمو الاقتصادي فيه، عَنَت أنه يتجه إلى انهيار اقتصادي شامل. ذلك أن عمليات الهندسة المالية التي اعتمدها المصرف المركزي، وتيسيره اقتراض الدولة من المصارف الخاصة تعويضاً عن انعدام القدرة على الاقتراض الخارجي بعد تخطي الدين الحدود القصوى المسموح بها، وتحوّل خدمة الدين إلى أكثر من ثلث الموازنة الوطنية السنوية، أمور أدت إلى تراجع مطرد في احتياط المصارف، وإلى ضغط متزايد على الليرة اللبنانية. ولم تشفع وعود المساعدات الفرنسية والدولية المشروطة بالمباشرة في إصلاحات محددة، في تعديل الأمور، إذ إن الإرادة الإصلاحية – ولو تجميلياً – غابت تماماً، والهدر والنهب لم يتراجعا، وتهريب الأموال إلى الخارج من طرف العارفين باحتمالات الانهيار تزايد. وجاءت العقوبات الأميركية على “كيانات” وهيئات، والتمنّع السعودي عن أيّ عون أو استثمار تحت عنوان هيمنة حزب الله على الكيانات المعنية وعلى الحياة السياسية، ليُفاقما من التأزم ومن العزلة اللبنانية.

 

ثورات جديدة وثورات مضادّة

بدأت تطورات مهمة تلوح في المنطقة ابتداء من أواخر سنة 2018، ثم طوال سنة 2019. فالثورات العربية التي هُزمت بين سنتَي 2012 و2015 نتيجة الثورات المضادة والعنف والانقلابات والتدخلات الإيرانية والإماراتية والروسية والسعودية والتركية والسياسات الأميركية والغربية المهجوسة بقضايا الاستقرار ومنع النزوح وصعود الإسلام السياسي، تجددت في دول لم تعرف الموجة الأولى. فمن السودان إلى الجزائر اندلعت تظاهرات ضخمة فاقت في حجمها ومثابرتها كل ما سبقها، ثم انضم إليها كل من العراق ولبنان في أواخر سنة 2019، وبدا أن موجة ثانية من الثورات في طريقها لإثبات أن هزيمة الموجة الأولى ليست نهائية. وإذا كانت ثورتا السودان والجزائر وُجّهتا حكراً ضد النخب الحاكمة في البلدَين، فإن ثورتَي العراق ولبنان تداخل فيهما الشأن الوطني بالشأن الإقليمي. لكن القمع في السودان، والسعي لاحتواء الثورة من طرف المجلس العسكري مدعوماً من دولة الإمارات، وتضحية الجيش بعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر ودعوته إلى انتخابات عامة ودستور جديد، أوهنت الزخم الثوري، وخصوصاً في الجزائر، ثم جاءت جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية لتساعد في محاصرة ما تبقّى من حيوياته.

أمّا في العراق، فقد واجهت الميليشيات والقوى الأمنية جموع المتظاهرين بالرصاص والاغتيالات، وأرخى الكباش الأميركي – الإيراني (بما في ذلك اغتيال الأميركيين لقاسم سليماني قائد فيلق القدس وردّ إيران بقصف مواقع أميركية) ثقله على الحراك الشعبي الذي تراجع زخمه مع الوقت، علماً بأنه كان قد عبّر في بعض جوانبه عن وطنية عراقية لدى أوساط شيعية واسعة في البصرة وبغداد رافضة للهيمنة الإيرانية.

في الوقت نفسه، تعرضت الثورة اللبنانية لضربات شديدة العنف، بدأت باستثارة الحميّة المذهبية الشيعية ضدها، ثم تأثرها بنتائج الكارثة الاقتصادية والإفلاس المالي وضياع أموال المودعين في المصارف وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، مروراً بعوارض جائحة كورونا، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت الذي جسّد خير تجسيد تحوّل الفساد لدى جميع أطراف الحكم إلى فعل إجرامي موصوف أطاح بعشرات آلاف المواطنين قتلاً أو تهجيراً أو رحيلاً عن البلد.

هكذا، فشلت موجة الثورات الثانية في تعديل موازين القوى في المنطقة وداخل كل بلد معنيّ، ولو أنها أبرزت طموحات وإرادات تغيير وثقافة سياسية مواطنية آخذة في الترسخ في أوساط شعبية متنوعة. ونجحت الأنظمة المستهدفة بالانتفاضات في التماسك مرحلياً، كما نجحت الأنظمة الراعية لها، في إيران والخليج، في منع تهاويها والعمل على إعادة تعويمها، وهذا كله في موازاة تطبيع متسارع مع إسرائيل يهدف، تماماً مثلما هدفت الممانعة قبله، إلى حماية الاستبداد وتبريره.

إقرأ أيضاً: لبنان والعراق(1/2): توأمان سياسيان غير مُعلَنيْن؟

ويمكن الزعم، على سبيل الخلاصة، وبالعودة إلى لبنان والعراق، أن البلدين باتا مع سورية، عرضة لإعادة تشكيل مجتمعي ديموغرافي، وأنّ حدودهما مشرعة على جملة عوامل قد تبدّل من معالمهما نتيجة الاحتلالات في سورية، وتفكك الدولة في لبنان، والتمسك الإيراني بالهيمنة في العراق، وطموح الاستقلال الكردي. وهذا بذاته مؤشر إلى عمق الأذى الناجم عن أعوام من القمع والحروب والاجتياحات والنهب المنظم وتوظيف الطائفية والمذهبية في مشاريع نفوذ قاتلة.

 

*كاتب وأستاذ جامعي

*نقلاً عن مجلة الدراسات الفلسطينية

مواضيع ذات صلة

رجال ترامب هم رجال إسرائيل!

تعكس اختيارات الرئيس المنتخب دونالد ترامب لبعض فريقه الرئاسي الجديد عمق سياساته المقبلة تجاه العالم ككلّ، وتجاه منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. قيل لي…

هل ينفع الحوار مع إيران للاستغناء عن خدماتها؟

حين تتحدّث مع دبلوماسيين غربيين عاملين على مسائل لبنان والمنطقة هذه الأيام، يصغون بشيء من اللياقة لما يُعرض من التفاصيل المتعلّقة بصيغة لبنان، سواء في…

صواريخ إيران: شّبح صّينيّ مجهول

كيف تحوّلت إيران إلى مصنّع للصواريخ؟ الصواريخ الإيرانية الصنع تعزّز الآلة العسكرية الروسيّة في الحرب على أوكرانيا. وهذه الصواريخ الإيرانية تشكّل رأس الحربة العسكرية للحوثيين…

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…