المشهدان مترابطان إلى درجة كبيرة ويمكن وضعهما في إطار واحد تحت عنوان العجز اللبناني. مشهد زيارة وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح للبنان حاملاً “رسالة كويتية، خليجيّة، عربيّة، دوليّة” مطلوباً الحصول على جواب عنها… ومشهد “تعليق” الرئيس سعد الحريري نشاطه السياسي لبنانيّاً. يجمع بين المشهدين اليأس من لبنان ومن قدرته على استعادة حيويّته في يوم من الأيّام. إنّهما مشهدان يكشفان أنّ الأزمة التي يمرّ بها البلد ليست أزمة نظام بمقدار ما أنّها أزمة وجوديّة تتعلّق بمصير بلد لم يستطِع أيّ سياسي فيه التعبير عن طبيعة الأزمة التي يعاني منها ومدى عمقها.
في قصر بعبدا وغير قصر بعبدا من لا يزال يعتقد أنّه يمكن أن تقوم قيامة لنظام بشّار الأسد في بلد لم يعد فيه لا كهرباء ولا تدفئة
يمكن أن نضع جانباً الكلام الصادر عن سعد الحريري الذي تحدّث فيه عن “النفوذ الإيراني” الذي بات يشكّل تهديداً لوجود لبنان. يمكن وضع هذا الكلام جانباً من دون تجاهل أنّ الحريري ذهب إلى طهران رئيساً لمجلس الوزراء في العام 2010، وما لبث أن دفع غالياً ثمن رفضه المطالب الإيرانية الثلاثة وقتذاك. كانت تلك المطالب محصورة بالسماح للإيرانيين بدخول لبنان من دون تأشيرة، وتوقيع معاهدة للدفاع المشترك بين لبنان و”الجمهوريّة الإسلاميّة”، والسماح لإيران بدخول النظام المصرفي اللبناني. هذا النظام الذي ما لبث أن انهار كلّيّاً. كان بين أسباب انهياره ضربات “حزب الله”، أي إيران، عليه. وهي حملة ما زالت مستمرّة في سياق سياسة تستهدف إفقار اللبنانيين.
سعى سعد الحريري إلى تفادي المواجهة المباشرة مع إيران، ومع “حزب الله” تحديداً. لكنّه اكتشف في نهاية المطاف أنّ ذلك ليس ممكناً، وأنّ الخيار الوحيد الذي بقي أمامه هو الانسحاب. يضع انسحابه، على الرغم من الفراغ الكبير الذي يتركه، اللبنانيين جميعاً، وليس السُنّة فقط، أمام مسؤوليّاتهم. يأتي ذلك خصوصاً بعدما تبيّن أنّ خيار انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة في العام 2016 كان خياراً انتحاريّاً… في ضوء قلّة الخبرة في تاريخ الرجل ومدى ارتباطه بـ”حزب الله” الذي اختبره طوال ما يزيد على عشر سنوات كي يتأكّد أنّه مستعدّ لكلّ شيء من أجل الوصول مع صهره جبران باسيل إلى قصر بعبدا.
يمكن الأخذ والردّ طويلاً في شأن ما إذا كانت المشكلة في التسوية الرئاسيّة نفسها أو في إدارة مرحلة ما بعد التسوية بمجرّد الاعتقاد أنّ ميشال عون يمكن أن يلعب دور “بيضة القبّان”، وهو أمر مستحيل أصلاً. لكنّ الأكيد أنّ لبنان يحتضر وبيروت تلفظ أنفاسها بعدما كانت عاصمة لثقافة الحياة.
لم يعد من مرجعيّة للبنان سوى “المرشد” علي خامنئي في إيران. لم يعد في لبنان سياسيّ مسؤول يعرف ما الذي يحدث فعلاً في سوريا حيث يسيطر “الحرس الثوري” الإيراني على مركز القرار لدى النظام
على وقع احتضار لبنان وبيروت، جاء وزير الخارجيّة الكويتي إلى البلد الصغير. لم تعُد بنود الرسالة التي حملها سرّاً. المطلوب من لبنان في غاية الوضوح بدءاً بالتوقّف عن أن يكون قاعدة عدوان على دول الخليج العربي أوّلاً… وصولاً إلى تنفيذه القرارات الدوليّة، وفي مقدّمها القرار 1559 الذي يعني بين ما يعنيه حلّ كلّ الميليشيات. المقصود بذلك حلّ ميليشيا “حزب الله” التي وضعت يدها على البلد. باتت ميليشيا “حزب الله” رمزاً للاحتلال الإيراني الذي وصفه سعد الحريري بـ”النفوذ الإيراني”.
لا يستطيع لبنان الردّ على الرسالة. الأكيد أن ليس في الإمكان الهرب منها وممّا تضمّنته عن طريق ممارسة لعبة التذاكي والكلام المنمّق الذي لا يعبّر إلّا عن تمنّيات بدل الأفعال. هل يستطيع لبنان وقف تهريب المخدِّرات إلى دول الخليج العربي أم لا، على سبيل المثال؟
تعبّر ما تضمّنته الرسالة التي حملها وزير الخارجية الكويتي عن رغبة صادقة في منع السقوط النهائي للبنان. لا يمكن التفريق بين هذا السقوط من جهة، وقرار سعد الحريري من جهة أخرى. لم يعد من مجال لممارسة لعبة البهلوانيّات التي يمارسها شخص مثل جبران باسيل. علّق جبران على قرار سعد الحريري بتغريدة جاء فيها: “نتمنّى زوال الظروف التي أملت موقف الحريري”. يقصد بلغة عربيّة صحيحة أن لا علاقة له من قريب أو بعيد بـ”الظروف التي أملت على الحريري اتّخاذ موقفه”. الظروف واضحة كلّ الوضوح. إنّها الظروف نفسها التي أملت على أحمد ناصر المحمّد الصباح المجيء إلى لبنان مبعوثاً من دول الخليج.
تتلخّص هذه الظروف بأنّ لبنان فَقَد، في ظلّ الاحتلال الإيراني الذي يعبّر عنه فرض “حزب الله” على اللبنانيين رئيس جمهوريّتهم، مقوّمات وجوده في منطقة حبلى بالتطوّرات الكبيرة.
حتّى لو تجاهلنا انهيار النظام المصرفي وكارثة تفجير مرفأ بيروت… ومشاكل المستشفى والجامعة والمدرسة والدواء والفندق والخدمات بكلّ أنواعها، فَقَد لبنان وجود المرجعيّة السياسيّة. لم يعد من مرجعيّة للبنان سوى “المرشد” علي خامنئي في إيران. لم يعد في لبنان سياسيّ مسؤول يعرف ما الذي يحدث فعلاً في سوريا حيث يسيطر “الحرس الثوري” الإيراني على مركز القرار لدى النظام. بلغ الجهل بالمسؤولين في أعلى هرم السلطة، أقلّه نظريّاً، غياب أيّ معلومات لديهم عن تداعي النظام السوري. هناك في قصر بعبدا وغير قصر بعبدا من لا يزال يعتقد أنّه يمكن أن تقوم قيامة لنظام بشّار الأسد في بلد لم يعد فيه لا كهرباء ولا تدفئة. وصل التدهور لوضع الكهرباء وانقطاع موادّ التدفئة في سوريا إلى مستويات رهيبة. اضطرّت الحكومة السورية قبل أيّام إلى إعطاء عطلة عامّة لمدّة أسبوع كامل قد تكون قابلة للتمديد. يبدو وكأنّ “التيّار الوطني الحرّ” وجبران باسيل شخصيّاً تولّيا ملفّ الكهرباء في سوريا!
إقرأ أيضاً: الخليج “أكثر لبنانيّة” من ساستنا!
أسابيع قليلة ويذهب لبنان إلى مزيد من التدهور. صار بلداً لا جواب فيه عن أيّ سؤال، ولا سيّما السؤال التالي: ما العمل في مواجهة الاحتلال الإيراني ومن أجل الخروج من مرجعيّة “المرشد” في طهران وممثّله في الضاحية الجنوبيّة لبيروت؟