هبوط الدولار: ميقاتي و”ضابطه” والحزب ثالثهما

مدة القراءة 7 د

لا يمكن الفصل بين القرار “الكبير” الذي اتّخذه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بضخّ الدولارات النقدية في البنوك بلا سقف (نظريّاً)، وإعلان الثنائي الشيعي استعداده للمشاركة في مجلس الوزراء بجدول أعمال محدّد ببنديْن حصراً: الموازنة وخطّة التعافي الاقتصادي.

يتصدّر البندان أولويّات رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، وهو يعلّق عليهما نجاحه أو فشله في المهمّة التي تقدّم لها وشجّعه عليها الغرب. وقد بدا للرجل أنّ لحظة الحقيقة قد دنت مع دخول موسم الانتخابات البرلمانية، وترقّب وصول بعثة صندوق النقد الدولي في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري. فإمّا أن تتقدّم الحكومة نحو إقرار البندين وإمّا أن تسقط بسقوط ما أتت لأجله.

يحلو للّبنانيين أن يصدّقوا أنّ لدى حاكم مصرف لبنان قوّة خارقة استخدمها لخفض سعر صرف الدولار بنحو 9000 ليرة في غضون أيام قليلة. يبقى أن يسألوا: لماذا لم يستخدم قواه الخارقة على مدى العامين الماضيين؟ وما الذي استجدّ ليستخدمها الآن؟ استجدّ عامل يخصّ شخص الحاكم المتعب من التهم والملاحقات القضائية في الداخل والخارج، وهذا بلا شكّ يشحذ همّته لكلّ فعلٍ من شأنه حرف الأنظار والاهتمامات وعناوين الأخبار إلى مكان آخر، لكنّه يبقى تفصيلاً في مشهد أكبر.

 

ثمّة خطّة لدى ميقاتي الآن، يساندها الثنائي الشيعي، ويتولّى “الضابط” رياض سلامة تنفيذ الشقّ النقدي منها. والخطة تتطلّب ضخّ مئات ملايين الدولارات من احتياط مصرف لبنان لخفض سعر الصرف، في سبيل تمكين الحكومة من تقديم موازنة على أساس سعر صرف، أو أسعار صرف، لا تكون شديدة البعد عن سعر السوق، لتحظى بشيء من المقبولية لدى صندوق النقد الدولي.

دولارات المنازل الورقية

الرهان هنا على أنّ مفعول الضربة المعنوية من ضخّ الدولارات، معطوفة على إعلان الثنائي المشاركة في اجتماع مجلس الوزراء، يمكن أن يحرّك الدولارات الورقية المخبّأة في المنازل (والمودعة لدى جمعية القرض الحسن)، ليعود ما أمكن منها إلى النظام المالي، إن لم يكن عبر البنوك، فأقلّه عبر منصة “صيرفة”. ويمكن لهذا المفعول أن يستمرّ لأسابيع قليلة تكفي لإقرار الموازنة وخطة التعافي وإطلاق التفاوض مع صندوق النقد الدولي، فتتوافر بعد ذلك عوامل دفع جديدة تعطي ما يكفي من الزخم حتى انقضاء الاستحقاق الانتخابي، فيخرج ميقاتي بعده بصورة “كاظمي لبنان” القادر على طمأنة الأميركيين، وطمأنة جماعة إيران.

فعل المخطّط فِعله في الأيام الماضية، مستفيداً من “الدولار المنزلي” الذي يحمل كلّ خصائص الأموال الساخنة، من حيث سرعة الحركة وقوّة التأثير في المدى القصير. ولكنّه يبقى مخطّطاً شديد الخطورة، لأنّ مصرف لبنان يناور ضمن هامشٍ ضيّقٍ جدّاً، وهو يغامر بمدّ اليد إلى القليل من الاحتياطات كاسراً كلّ الخطوط الحمر، بما فيها التوظيفات الإلزامية للمصارف والأموال التي حصل عليها من صندوق النقد الدولي البالغة 1.14 مليار دولار.

ويمكن أن تتحوّل هذه المغامرة إلى مقامرة إذا لم تتحقّق الخطوات التالية في مخطّط ميقاتي (الموازنة وخطّة التعافي والاتفاق مع صندوق النقد)، لأنّ السوق الموازية قادرة على ابتلاع مئات الملايين التي يضخّها مصرف لبنان خلال أسابيع، ولأنّ الأساسيّات “الماكرو-اقتصادية” تبقى الحاكم والحَكَم في المدى الأبعد. إذ لا يمكن للدولار أن يستمرّ بالانخفاض في ظلّ العجز الهائل في الميزان التجاري وميزان المدفوعات وإفلاس الدولة وغياب موارد التمويل الخارجي، ما لم يتوافر تمويل عاجل للحساب الجاري من صندوق النقد الدولي.

حركة ميقاتي توحي بأنّه واثق من دعم الثنائي له حتى إنجاز المهمّة وفتح خزائن صندوق النقد، وهو يستند في ذلك إلى أجواء تقاطع إيراني – غربي

ولكي لا يتحوّل الأمر إلى مقامرة، لا بدّ لميقاتي من تخطّي استحقاقات صعبة، هنا بعضها:

– سعر الصرف: تشير المعلومات المتداولة إلى أنّ الحكومة تُعدّ موازنتها على أساس ثلاثة أسعار صرف: السعر الرسمي، وسعر 8000 ليرة للدولار الجمركي، وسعر صيرفة لتكاليف الصيانة وشراء المعدّات في الجهات الحكومية. لن يكون من السهل إقناع صندوق النقد الدولي بهذا النموذج المشوّه، بما فيه من أبواب خلفيّة تتيح لقطاعات تحقيق استفادة غير مشروعة، وتتيح للبنوك الاستمرار بإخفاء الخسائر والعبث ببياناتها المالية.

– التعيينات: يحتاج ميقاتي إلى تجاوز إمكانية العرقلة العونية، في ظلّ الانطباع بأنّ رئيس الجمهورية منزعج من خروج الملف الاقتصادي عن سيطرته المباشرة. ويمكن لملفّ التعيينات أن يكون صاعق التفجير، إذا ما أصر الفريق العوني على إقالة رياض سلامة وتقديم قوائمه لعدد من المراكز الشاغرة. ويبدو أنّ القاضية غادة عون مستمرّة في حملتها المتصاعدة، بعد قرارها أمس بوضع إشارة “منع تصرّف” على أملاكه وسياراته).

– تصحيح الأجور: تشير الأجواء حتّى الآن إلى أنّ الموازنة لن تتضمّن تصحيحاً للأجور، بل الاكتفاء بالمساعدة الاجتماعية لموظّفي القطاع العام. لكن في المقابل، لا بدّ من رفع الكثير من الرسوم الحكومية بشكل أو بآخر لتحسين الإيرادات، ولا بدّ أن يكون هذا موضوعاً متفجّراً في الحكومة أو في مجلس النواب أو في الشارع.

– الأعباء الاجتماعيّة: ستتضمّن خطة التعافي بلا أدنى شكّ أعباء مالية كبيرة على المواطنين، من ضمنها زيادات كبيرة للرسوم والضرائب والتعرفات، أوّلها رفع تعرفة الكهرباء.

– توزيع الخسائر: هذا الموضوع فجّر خطة حكومة حسان دياب المالية والاقتصادية، وسيبقى ملفّاً متفجّراً في الأسابيع المقبلة عندما تتكشّف معالم خطة ميقاتي. ولو أنّ المهمة باتت أسهل نوعاً ما، لأنّ سقف التوقّعات بات أدنى لدى المودعين، ولم يعد الحديث عن “هيركات” محرّماً.

تشير الأجواء حتّى الآن إلى أنّ الموازنة لن تتضمّن تصحيحاً للأجور، بل الاكتفاء بالمساعدة الاجتماعية لموظّفي القطاع العام

غير أنّ حركة ميقاتي توحي بأنّه واثق من دعم الثنائي له حتى إنجاز المهمّة وفتح خزائن صندوق النقد، وهو يستند في ذلك إلى أجواء تقاطع إيراني – غربي، بمنأى عن دول الخليج. لا بدّ من العودة إلى الوراء قليلاً للتذكير بأنّ تشكيل الحكومة الراهنة كان نتاج تخاطب بالإشارة بين معسكر إيران في لبنان ونصائح السفارات الغربية، ولا سيّما السفارتين الأميركية والفرنسية. وهي بهذا الاعتبار طفل حديث الولادة للمفاوضات النووية في فيينا، ولا غرابة في أنّها بقيت في الحاضنة طوال الأشهر الماضية ما دامت المفاوضات لم تُختَم بالتواقيع.

التواتر مع فيينّا

وحين وردت أنباء عن تقدّم في مفاوضات فيينا، قدّم الحزب غذاء الإنعاش للحكومة، فيما تقدّم الإدارة الأميركية التسهيلات لاتفاق نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا، ويعود التفاوض مع إسرائيل على ترسيم الحدود البحرية إلى الواجهة. هذا من باب الافتراض أن العناوين الثلاثة هذه صارت وقائع.

في لبنان من يستسهل ربط الملفّات، وتصوير المسار المتقدّم نحو الاتفاق النووي على أنّه انفراج بالجملة في علاقات إيران داخل الإقليم. وواقع الأمر أنّ دول الخليج فتحت أبواباً للتفاهم، لكنّ الردّ الإيراني أتى في اتجاهات متعدّدة. ففي الإعلام تصريحات إيجابية، وفي الغرف المغلقة رفض لخفض التصعيد في اليمن، وعلى الأرض تصعيد الهجوم على مأرب على مدى الأشهر الماضية، واستمرار الهجمات في العمقين السعودي والإماراتي، وآخرها الهجوم على صهاريج ومنشآت قيد البناء في أبوظبي. وفي لبنان، يواصل “حزب الله” نهج العداء لدول الخليج، بالقتال والتدريب والخطاب الإعلامي، وإقامة المؤتمرات للعناصر المعادية.

يبدو التصرّف الإيراني نسخة مكرّرة عمّا أعقب الاتفاق النووي السابق عام 2014 في عهد باراك أوباما. مرّة أخرى ترى طهران في الاتفاق النووي المنتظر إطلاقاً ليدها في الإقليم، فتطيح بآمال الحلّ السياسي في اليمن، وتلتفّ على نتائج الانتخابات العراقية تحت شعار تشكيل حكومة “وحدة وطنية” توفّر لها سلطة التعطيل، على نحو ما فعلت في لبنان بعد انتخابات 2009. تبقى احتمالات السلوك الإيراني مفتوحة على التصعيد أو العقلنة، ولا سيّما بعد انقلاب الموازين في الميدان اليمني أخيراً، مع سيطرة ألوية العمالقة المدعومة من التحالف العربي على شبوة، وتقدّمها جنوب مأرب.

إقرأ أيضاً: كيف تأخر جنون الدولار عاماً كاملاً؟

لكن ماذا لو ظلّ السلوك الإيراني بلون الدخّان المتصاعد من الصهاريج في أبوظبي؟ هل يمكن لميقاتي أن يؤسّس مهمة حكومته على أساس انفراج بين إيران والغرب، أو انفجار داخل الإقليم؟

فليجرّب.

مواضيع ذات صلة

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…

لبنان بين “وصاية” صندوق النّقد وتسهيلات “البريكس” (1/2)

أثارت الأزمة الاقتصادية المعقّدة في لبنان مناقشات حول البدائل المحتملة لصندوق النقد الدولي، حيث اقترح البعض أن تتحوّل البلاد إلى “البريكس” كمصدر لدعم التعافي. وبالنظر…

لبنان على القائمة الرمادية: إبحار المصارف في حالة عدم اليقين(2/2)

بعدما عرضت الحلقة الأولى من التقرير، تداعيات إدراج لبنان على القائمة الرمادية، تتناول الحلقة الثانية الإجراءات التفصيلية التي ستترتب على هذه الخطوة، سواء في ما…

إسرائيل تعرّي النّفط الإيرانيّ ولا تشعله

يحتاج الاستنتاج السريع بأنّ إسرائيل حيّدت منشآت النفط الإيرانية من ضربتها، إلى الكثير من التدقيق. واقع الأمر أنّها أعطت الأميركيين ما يريدونه فيما وجّهت إلى…