تسجّل الدولة العبرية فشلاً مدوّياً، الأوّل في التعامل مع العرب الذين يحملون جنسيّتها ويشاركون في انتخاباتها ويلتزمون بقوانينها. والثاني مع الفلسطينيين الذين دخلوا معها في “مجازفة” سلام، سُمّيت بـ”التاريخية” في حينها.
وقائع الفشل الأوّل كثيرة ومستمرّة، وهي مترافقة مع نشوء الدولة العبرية. ولهذا الفشل المستمرّ جذر أساسيّ هو عدم المساواة في الحقوق بين حاملي الجنسية الإسرائيلية. الأمر الذي جعل خمس سكّان الدولة وفق إحصاءاتها الرسمية سكّاناً من المرتبة الثانية فحسب، وفي حالات كثيرة أقلّ من ذلك. فبوسع أيّ آدميّ أن يقبل المرتبة الثانية إذا ما كان لاجئاً قصراً أو بمحض إرادته إلى دولة أخرى ومجتمع آخر، إلا أنّه لن يقبل أن يكون في المرتبة الثانية في بلد يقول التاريخ وتقول الجذور العميقة إنّه توارث المواطنة فيه منذ بداية التاريخ.
تسجّل الدولة العبرية فشلاً مدوّياً، الأوّل في التعامل مع العرب الذين يحملون جنسيّتها ويشاركون في انتخاباتها ويلتزمون بقوانينها. والثاني مع الفلسطينيين الذين دخلوا معها في “مجازفة” سلام
عرب الـ 48 أو “عرب إسرائيل” لم يفقدوا الصلة بوطنيّتهم الفلسطينية، ولم يفقدوا التواصل مع أهل قوميّتهم العربية على الرغم من الصعوبات الكبيرة الشديدة التعقيد التي سادت قبل الانفتاحات الأخيرة على الفلسطينيين والعرب، وحتّى أولئك الذين تعاملوا مع الدولة العبرية بطرق مختلفة ظلّوا موحّدي الجذور الثقافية والعرقية التي هي أعمق وأقوى المكوّنات الأساسية لوحدة شعب.
أسباب استمرار الصراع
علاقة الدولة العبرية بالعرب الذين يحملون جنسيّتها تأثّرت على الدوام بواقع وتطوّرات الصراع العربي الإسرائيلي الأوسع. وقد كانت الدولة العبرية وما تزال على علاقات عدائية مع الغالبيّة العظمى من الشعوب العربية المحيطة بها، ومن ضمنها الشعب الفلسطيني المنتشر على كلّ خريطة الكوكب.
لذا لم يكن ترفاً ولا مولوداً من فراغ ذلك الشعار “السلام والمساواة” الذي أنتجته الطليعة العربية في إسرائيل. وما دام هذا الشعار لم يكتمل تحقيقه على أرض الواقع على نحو يرضي مَن رفعوه، فإنّ مسبّبات استمرار الصراع ستظلّ أقوى من الاجتهادات العديدة لإنهائه، بما في ذلك المنهج الإسرائيلي الذي يُعبَّر عنه بقوّة في أدبيّات ومسلكيّات الائتلافات الحكومية التي تنكر المساواة الكاملة مع العرب في إسرائيل مثلما تنكر الحلّ الجذري للقضية الفلسطينية على أساس حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة على الأراضي التي اُحتُلّت في العام 1967.
انفجر الفشل الإسرائيلي ذو العناصر المتراكمة في “يوم الأرض”. وكان في خلفيّاته وتجلّياته “يوم الناس” كذلك. فالأرض بالنسبة إلى الناس ليست أطياناً وعقارات واستثمارات فحسب، بل هي وطن. والناس الذين توارثوا العيش عليها منذ فجر التاريخ ليسوا سكّان أمر واقع وحسب كي تتعامل الحكومات الإسرائيلية معهم من منطلق أن ليس لهم من حلّ غير ذلك.
تظاهرات النقب
يوم أرض وناس جديد نشأ بقوّة هذه الأيام ويجري هذه المرّة في النقب، حيث خرجت المئات في تظاهراتٍ الأسبوع الماضي احتجاجاً على تجريف أراضيهم، وزراعتها بالأشجار توطئة لمصادرتها، من قبل الصندوق القومي اليهودي، وهو منظمة تجمع الأموال من اليهود بالعالم لوضع اليد على الأملاك الفلسطينية.
إنّها حكاية متجدّدة ولا تنتهي لأرض في وطن وأناس من شعب. وإذا كان النقب أرضاً صحراوية ممتدّة وناسه يحتفظون بإيقاعهم البدوي والكثير من سلوكهم ولهجتهم، فهو أيضاً وطن مَن فعلوا المستحيل للبقاء فيه، وعملوا كغيرهم بهمّة وفاعليّة لمواكبة أدوات العصر في كلّ مجالاتها. إلا أنّ ما لم تقرأه إسرائيل بقدر كافٍ أو حتى معقول من المسؤولية والموضوعية، هو ذلك الاتصال الوجداني الذي استيقظ بقوّة في تفاعل تضامني مع أهل النقب حيثما وُجد عرب في إسرائيل وحيثما وُجد فلسطينيون ومتعاطفون معهم في بلاد الله الواسعة.
مهما حدث من حروب وصراعات ومتغيّرات سياسية وجغرافية وكيانية على مدى القرن الماضي، الذي شهد ولادة القضية الفلسطينية مع ولادة الدولة العبرية، وما انقضى من القرن الحالي، فإنّ الجذر لم يُمسّ ولم يمُت، ولم ينتج شعباً هجيناً. ويجدر التذكير هنا بأنّ العرب من حاملي الجنسية الإسرائيلية، هم أكثر واقعية وإيجابية ومسؤولية من محيطهم اليهودي الصهيوني، حين رفعوا ومن أجل الحفاظ على بقائهم فوق أرضهم شعار “المساواة” بما يكفل حياة كريمة لهم، وقدّموا السلام على المساواة في جدلية منطقية وواقعية، والتزموا مع أبناء قومهم الفلسطينيين والعرب بحلّ الدولتين كحاضنة سياسية لشعارهم “السلام والمساواة” الذي ما يزال مرفوعاً.
إقرأ أيضاً: تل أبيب وساعة الرمل الإيرانيّة
ومهما بدا أنّ هذا الشعار تراجع كطرح عمليّ ملحّ بفعل نشوء مفاهيم موازية أو طاردة إلا أنّه يظلّ الأكثر منطقية وواقعية لإنهاء الصراع بشقّيه الداخلي والمحيط.
أهل النقب ثابتون ويتكاثرون في صحرائهم الدافئة، وأهل الجليل والمثلّث كذلك، مثل كلّ الفلسطينيين في كلّ مكان الثابتين على حقوقهم. وما لم تنجح فيه إسرائيل هو حملهم على التخلّي وتطويع إرادتهم ومعتقدهم.