تل أبيب وساعة الرمل الإيرانيّة

مدة القراءة 7 د

تتقدّم محادثات النووي بين القوى العظمى وإيران. فمرحلة جسّ النبض انتهت، وكلّ طرف بات يعرف إلى هذا الحدّ أو ذاك حدود الطرف الآخر. وأظهرت المحادثات الجارية في فيينا مع طهران عمق الأزمة التي تعانيها إسرائيل على صعيد علاقتها الإشكالية مع الإدارة الأميركية الجديدة للرئيس جو بايدن.. وتدرك تل أبيب أنّ قدرتها على التأثير على الإدارة الأميركية محدودة في مفاوضات فيينا بين الدول العظمى وإيران. بل وتعترف أنّ أجندة إدارة بايدن تغيّرت بشكل لا يعمل بالضرورة لمصلحة إسرائيل. فإلى جانب القضايا الدولية الماثلة على أجندة بايدن، أُضيفت المواجهة التي شرعت تشتدّ بين روسيا وأوكرانيا، والتي اتّخذت لها الآن مكاناً مركزياً في جدول إدارة بايدن الزمني. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ سياسة إدارة بايدن في الشرق الأوسط هي تحديد أهداف متواضعة قابلة للتحقّق، في ظلّ استخدام أدوات دبلوماسية والامتناع عن استعمال أدوات عسكرية من شأنها أن تجرّ واشنطن إلى معركة أخرى في الشرق الأوسط.

تبدو القيادة السياسية في إسرائيل اليوم مشوّشة، فهي تقول إنّ سياستها لن تكون مرتبطة بنتائج المفاوضات مع إيران

الصورة التي بدأت تتشكّل لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت ووزير الخارجية يائير لبيد ووزير الجيش بيني غانتس، تبيّن أنّ الولايات المتحدة تميل إلى التوصّل إلى اتفاق نووي مع إيران. ليس فقط لأنّ الإمكانية الثانية، الحرب، صادمة بالنسبة لها، بل لأنّ الإدارة الأميركية برئاسة بايدن، المتعثّر في استطلاعات الرأي، بحاجة إلى إنجاز يحسِّن وضعه، ويظهر أنّ كلّاً من إيران والقوى العظمى مهتمّة بالعودة إلى الاتفاقية النووية لعام 2015، وأنّ احتمالية حدوث ذلك مرتفعة.

 

الإيرانيون جادّون

وإذا كان التقدير في إسرائيل قبل أسابيع قليلة هو أنّ الإيرانيين، برئاسة المتشدّد إبراهيم رئيسي، ليسوا جادّين ويستخدمون المفاوضات في فيينا للمماطلة للمضيّ قدماً في البرنامج النووي، فإنّ التقدير الآن في تل أبيب هو أنّ الإيرانيين مهتمّون بالفعل بالتوصّل إلى اتفاق بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بإيران.

وتجد إسرائيل نفسها أمام معضلة حقيقية. فهي لم تعد تملك وسائل ضغط على الإدارة الأميركية لإقناعها بعدم العودة إلى الاتفاق، أو على الأقلّ فرض مشاركتها في النقاشات الدائرة بشأن اتفاق نووي جديد محسّن. والأمر الوحيد الذي لوّحت به هو اللجوء إلى الخيار العسكري الذي يبدو صعباً في الظروف الإقليمية والدولية الحالية التي تدعم العودة إلى الاتفاق النووي الأصلي مع إيران مع تحسيناتٍ أو من دونها.

يرى المحلّل العسكري ألون بن دافيد أنّ “الجيش الإسرائيلي وسلاح الجو والموساد يدرسون خيار الهجوم على البرنامج النووي، وهذه وظيفتهم. نعم، ستستمرّ القيادة الإسرائيلية بتذكير العالم بأنّه يوجد خيار كهذا، وهذه وظيفتها أيضاً. لكنّ إخراج الأمور من سياقها والتصوير أنّنا سنحلّق صباح غد من أجل الهجوم على إيران، هما من صياغة محرّري الأخبار، ولا  يعكسان خطوة حقيقية”.

وقد أقرّ رئيس حكومة الاحتلال الأسبق، إيهود أولمرت، أنّه “لا يوجد لـ”إسرائيل” خيار عسكري يتضمّن عملية شاملة ضدّ الاتفاق النووي الإيراني، تدمّر كلّ شيء وتقضي على كلّ شيء، وحين يُقال ذلك فهو تبجّح لا طائل منه ولا يدلّ على قوّة بل على ضعف”.

تدرك تل أبيب أنّ قدرتها على التأثير على الإدارة الأميركية محدودة في مفاوضات فيينا بين الدول العظمى وإيران

في هذا الإطار، أبلغ الجيش الإسرائيلي السلطة السياسية بأنّه يصعب عليه تحديد نتائج وتأثير هجوم على البرنامج النووي الإيراني، وخصوصاً أنّ تقديرات الجيش تشير إلى أنّ إيران طوّرت منظومة دفاعاتها الجوية في السنوات الأخيرة، بحيث إنّ هجوماً إسرائيلياً يتطلّب قدرات أعلى وأكثر دقّة. ونجحت إيران أيضاً في زيادة منظومتها الصاروخية للمدى الطويل، ويمكنها ضرب أيّ نقطة في إسرائيل بشكل كبير، ولا يمكن إغفال انضمام ذراع إيران في لبنان، حزب الله، إلى المواجهة المقبلة مع طهران.

ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا وافقت لجنة المال في الكنيست على إضافة ماليّة إلى ميزانية الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية بأكثر من 9 مليارات شيكل لإعداد الجيش الإسرائيلي لمواجهة مع إيران؟ ولا تتعلّق تلك الإضافة فقط بصواريخ متقدّمة وقنابل ذكية وعميقة ووسائل أخرى، بل وتدريب سلاح الجو وجمع قسم الاستخبارات معلومات دقيقة عن أهداف ستتمّ مهاجمتها بشكل دقيق.

وتبدو القيادة السياسية في إسرائيل اليوم مشوّشة، فهي تقول إنّ سياستها لن تكون مرتبطة بنتائج المفاوضات مع إيران، وأنّها لا تلتزم بأيّ اتفاق نووي، وأنّها ليست جزءاً منه حتى لو تمّ التوقيع عليه، لكنّ الواقع شيء آخر.

 

مهادنة بايدن

فإلى جانب عدم الاستعداد بما فيه الكفاية لمواجهة التغيرات السريعة التي طرأت على الموقف الدولي من الاتفاق النووي الإيراني، هناك غياب واضح لاستراتيجية لدى هذه القيادة لمواجهة تحدّيات المرحلة المقبلة، ولا سيّما تلك التي ستنشأ في حال نجحت إيران في رفع العقوبات الاقتصادية عنها، الأمر الذي سيعزّز تلقائياً وجودها العسكري في المنطقة ونفوذ وكلائها. ووفقاً لتل أبيب فإنّ النتيجة الفعلية هي مهر الاتفاق النووي الجديد كلّ نوايا طهران السيّئة بخاتم اتفاق دولي.

ويبدو، على كلّ حال، أنّ التوجّه الآن لدى حكومة بينيت هو مهادنة الإدارة الأميركية في الموضوع النووي، أخذاً بتوصيات النخب الإسرائيلية، ووفقاً لوزيرين شاركا في جلسة “الكابينت”، كانت الأجواء العامّة في الجلسة أنّه حتى لو تحقّق اتفاق مع إيران في محادثات فيينا، يجب الامتناع عن الخروج علناً ضدّ إدارة بايدن في هذا الشأن. وفي هذا الاتجاه يقول وزير الخارجية يائير لبيد إنّ “الولايات المتحدة هي الشريك الاستراتيجي الأهمّ لإسرائيل، وممنوع تحطيم منظومة العلاقات مع الإدارة الأميركيّة”. وتتطلّع إسرائيل إلى الحصول على تعويضات أمنية وعسكرية ضخمة من الإدارة الأميركية، بعد التوصّل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي.

النخبة السياسية ترى في تل أبيب أنّه بالنسبة إلى “ساعة الرمل الإيرانية” المطلوب أن تدرك إسرائيل أنّها ليست في عهد دونالد ترامب، حيث كان يمكنها أن تتبجّح بنيّتها ضرب إيران، وأنّها في عهد بايدن بكلّ ما يعني ذلك، وأنّ عليها أن تمتنع عن نشر الخلافات التي تظهر في الحوار الاستراتيجي الجاري مع كبار رجالات الإدارة الأميركية. كذلك على المسؤولين الإسرائيليين أن يقلّصوا قدر الإمكان الخطاب العلني المتعلّق بالمعركة ضد النووي الإيراني. فالتسريبات تضرّ بالعلاقة بين حكومة بينيت وبين الإدارة الديموقراطية. 

وفي الوقت نفسه، يمكن الاستمرار في حرب الظلال، وتعميق عمليات “المعركة بين  حربين”، المنسوبة إلى إسرائيل، والحرب السيبرانية، من أجل الاستمرار في إحباط النووي الإيراني، ومواصلة سياستها الضبابية النووية التقليدية المتّفق عليها مع أميركا منذ العام 1969. وبفضلها تعطي الولايات المتحدة لإسرائيل الرعاية الدبلوماسية والسياسية في مواجهة مبادرات دولية لنزع سلاحها، بما في ذلك ميثاق منع انتشار السلاح النووي. يجد هذا الفهم تعبيره في الجملة التي تقول: “الولايات المتحدة تعترف بحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها بنفسها”.

وفي موازاة ذلك، تتحضّر إسرائيل من خلال بناء سريع للقوّة، لمواجهة احتمال القيام بعملية عسكرية محتملة ضدّ النووي الإيراني، “في حال وصول السيف إلى الرقبة”. ويمكن أن تكون لها تداعيات دراماتيكية، في طليعتها الاحتكاك بالولايات المتحدة ومواجهة قاسية على الجبهة الشمالية.

إقرأ أيضاً: تل أبيب: فشل سياسة جزّ العشب في الضفّة الغربيّة!

على ما يبدو، فإنّ حكومة نفتالي بينيت تعزّي نفسها بوضع هدف جديد في مواجهة إيران، هو إضعافها ككلّ، وليس فقط الدفع إلى أن توقف برنامجها النووي. ووفقاً لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، الهدف الذي يضعه بينيت هو أن “تفعل إسرائيل للإيرانيين ما حاولت إيران فعله للإسرائيليين”. فقد “بنى الإيرانيون بنجاح كبير حول حدود إسرائيل تهديدات تكتيكيّة مزعجة تشغل تدريجياً رئيس الحكومة على نحو متزايد، وتستهلك حصّة وازنة متزايدة من ميزانية الدولة. فغزّة ملأت ولاية شارون وبدرجة كبيرة ولاية أولمرت. استثمر نتانياهو ساعات غير محدودة بمواجهة ازدياد القوّة الإيرانية في سورية. وحقّقت إسرائيل سلسلة إنجازات تكتيكية انعكست فشلاً استراتيجياً كبيراً”. ووفقاً ليديعوت أحرونوت: “ما الذي سيحدث عندما يحتاج الإيرانيون إلى الانشغال أكثر وأكثر بتهديدات داخلية تشكّلها لهم دولة إسرائيل؟”.

مواضيع ذات صلة

“دوخة” نيابيّة: جلسة من دون فرنجيّة وجعجع!

“الوضع بدوّخ. المعطيات مُتضاربة ومُتغيّرة كالبورصة. ولا توافق سياسيّاً بالحدّ الأدنى حتى الآن على أيّ اسم لرئاسة الجمهورية”. هي حصيلة مختصرة للمداولات الرئاسية في الأيّام…

جعجع في عين التّينة لإنضاج الرّئاسة؟!

عاثرٌ جدّاً حظّ سليمان فرنجية. مرةً، واثنتيْن وثلاث مرّات، بلغت الرئاسة حلقه، لتُسحب في اللحظات الأخيرة، فيقف على أعتاب القصر عاجزاً عن دخوله، ويعود أدراجه…

يومٌ في دمشق: فرحٌ ممزوج بالقلق

مرّت 14 سنة بالتّمام والكمال عن المرّة الأخيرة التي زُرتُ فيها العاصمة السّوريّة دِمشق، في كانون الأوّل من عام 2010، أي قبل 4 أشهر من…

برّي والرّئاسة: Now or Never

ما كادت تمرّ أيّام قليلة على الإطاحة بالنظام السوري، حتى ظهرت أوّل تداعيات “الانقلاب الكبير” على الرقعة اللبنانية، في شقّها الرئاسي: انقلبت أدوار القوى السياسية،…