حكاية كازاخستان الكاملة: الآن بدأت لعبة الأمم

2022-01-15

حكاية كازاخستان الكاملة: الآن بدأت لعبة الأمم

بالأمس القريب فقط كانت كازاخستان دولة مجهولة على الصعيدين العالمي والمحلّي، لكنّها صارت بين ليلة وضحاها محطّ اهتمام كوني، بعد الاحتجاجات القوية والعنيفة التي اندلعت في بعض مدنها مع بزوغ شمس أوّل أيّام السنة الجديدة.

وراحت سيناريوهات المؤامرة تنهمر من كل حدب وصوب في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا يقول إنّها مؤامرة أميركية، وذاك يقول روسية، وثالث يقول تركيّة، ورابع أوروبية. فماذا يحدث في كازاخستان؟ ولماذا تحظى بهذا الاهتمام الشديد من كبار اللاعبين في العالم؟ وأين المؤامرة؟

بالأمس القريب فقط كانت كازاخستان دولة مجهولة على الصعيدين العالمي والمحلّي، لكنّها صارت بين ليلة وضحاها محطّ اهتمام كوني، بعد الاحتجاجات القوية والعنيفة التي اندلعت في بعض مدنها مع بزوغ شمس أوّل أيّام السنة الجديدة

بين عملاقين

بالمختصر المفيد، كازاخستان دولة في آسيا الوسطى من الجمهوريات السوفياتية السابقة، مساحتها البالغة 2.7 مليون كلم2 تفوق مساحة أوروبا الغربية كاملةً، مع عدد سكّان ضئيل  يبلغ 19 مليون نسمة فقط. 70% من السكّان مسلمون (من العرق التركيّ)، مع أقلّية روسية تقارب 20%، وأقليّات أخرى ضئيلة، يغلب عليها، كما آسيا الوسطى، طابع البداوة. ومعظم السكان يعيشون في مجتمعات ريفية.

لديها حدود مع روسيا بطول حوالي 7000 كلم، ومع الصين بطول 1500 كلم، وتطلّ على بحر قزوين الغنيّ بالنفط والغاز، ولها الحصّة الكبرى منهما لأنّ الجزء الأكبر من الشواطئ القزوينية هو كازاخيّ (2340 كلم).

كازاخستان بلد فيه من الخيرات ما يسيل له لعاب الدول والأمم وتُبذل لأجله الدماء والأنفس. فيها النفط والغاز، ومعادن ثمينة أيضاً، وهي أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وثاني دولة في تعدين العملة الرقمية “بتكوين”.

وعلى الرغم من كلّ ذلك فإنّ شعبها يعاني اقتصادياً. وحسب التقارير الدولية هناك مليون كازاخي تحت خطّ الفقر. والسبب الذي أدّى إلى اندلاع الاحتجاجات هو رفع أسعار الغاز المُسال، خاصة “البروبان” الذي يُعتبر وقود الفقراء لرُخص سعره. زاد سعره بنسبة 100%، من 60 إلى 120 تينغ (العملة المحليّة)، أي من 0.13 إلى 0.27 دولاراً. الأمر الذي نجم عنه ارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات.

انتفاضة اجتماعيّة

كثرة الحديث عن المؤامرات الدولية لا تنفي أن تكون الاحتجاجات انتفاضةً اجتماعيةً محضة. بلد غنيّ بالخيرات وشعبه فقير، في حين أنّ نخبة أوليغارشية مالية سياسية تستأثر بمنابع المال في الاقتصاد المحلّي، ويحكمها رجل واحد منذ الاستقلال، نصب التماثيل لنفسه وأطلق على نفسه لقب “عميد الأمّة”، وهذا في حدّ ذاته وصفة مثالية للانتفاضة والثورة.

إنّه نور سلطان نزارباييف رئيس جمهورية كازاخستان من 1991 حتى 2019، والحاكم الفعلي بعد ذلك. فهو مَن اختار خَلَفَه الرئيس الحالي قاسم جومارت توكاييف، واحتفظ لنفسه بمواقع مهمّة في النظام، أبرزها رئيس مجلس الأمن القومي في البلاد.

كازاخستان دولة في آسيا الوسطى من الجمهوريات السوفياتية السابقة، مساحتها البالغة 2.7 مليون كلم2 تفوق مساحة أوروبا الغربية كاملةً، مع عدد سكّان ضئيل  يبلغ 19 مليون نسمة فقط

الأمر اللافت في الاحتجاجات أنّ المتظاهرين كانوا يهتفون “إرحل أيّها العجوز” قاصدين نزارباييف (81 سنة)، بما يوحي أنّه الهدف الأساس من الاحتجاجات، خاصة مع تحطيم بعضٍ من تماثيله الكثيرة. لذلك سارع رئيس الجمهورية إلى إقالته من منصبه ليتسلّمه بنفسه، كما أقال ابن شقيقة “العجوز”، صمد أبيش، وهو يشغل منصب نائب قائد الشرطة، والمرشّح الأكثر حظوة لدى خاله لوراثته سياسياً.

الجدير بالذكر أنّه منذ عقد تقريباً اندلعت احتجاجات عمّالية في المدينة نفسها، حيث انطلقت حركة الاحتجاجات الحالية، وأُخمدت وقتذاك ببطش وقوّة الأمن. وكانت نتيجتها عشرات القتلى والجرحى من العمّال الذين تظاهروا لتحصيل حقوقهم المسلوبة. ثمّ تكرّر الأمر عام 2019، دافعاً نزارباييف إلى الاستقالة، وإجراء انتخابات تمخّض عنها انتخاب الرئيس الحالي بمشورة منه.

ولمّا لم تكن تلك الاحتجاجات مؤامرة فلماذا تكون كذلك اليوم؟

ثورة ملوّنة أميركيّة!

الموقع الجغرافي لكازاخستان بحدّ ذاته يمنحها أهميّة كبرى. فكما هو معلوم أنّ الإدارة الأميركية تضع على رأس جدول اهتماماتها التنّين الصيني الآخذ في التوسّع الاقتصادي على حساب الجميع بما يهدّد مكانة أميركا كقوّة عظمى.

الإستراتيجية الأميركية مبنيّة على إثارة النزاعات بين الصين ومحيطها، كما حصل في تصعيد الأزمة التايوانية، ولا سيّما مع اشتداد حاجة الاقتصاد العالمي إلى الرقائق الإلكترونية التي تنتجها الأخيرة. وأيضاً في تشجيع الدول الثماني المتشاطئة في بحر الصين على الدخول في نزاعات مع بكين حول الجزر والمرور في هذا البحر.

تحاول أميركا أيضاً إثارة المشاكل داخل الصين عبر استخدام قضية المسلمين الإيغور الذين تضطهدهم الصين بشكل غير مسبوق. والحدود الصينية مع كازاخستان هي بالأصل بمعظمها حدود بين إقليم “تشينج يانغ” أو “تركستان الشرقية” حيث يقطن الإيغور، وبين كازاخستان.

من أهمّ أسباب اضطهاد الصين للمسلمين “الإيغور”، وسياسات التغيير الديموغرافي التي تتّبعها السلطات الصينية هناك، السعي وراء الاستحواذ على الخيرات الاقتصادية الموجودة في الإقليم، وموقعه الذي يجعله بوّابة الصين نحو آسيا الوسطى وبحر قزوين ومواردهما، فضلاً عن كونه محطة رئيسية على مسار طريق الحرير.

وتمتلك كازاخستان مكانة كبرى في هذا المشروع الصيني الضخم المعروف بـ”الحزام والطريق”. أضف الى ذلك، تربط كازاخستان الأسواق الكبيرة في الصين وجنوب آسيا بأسواق روسيا وأوروبا عن طريق البرّ والسكك الحديدية وميناء على بحر قزوين.

كثرة الحديث عن المؤامرات الدولية لا تنفي أن تكون الاحتجاجات انتفاضةً اجتماعيةً محضة. بلد غنيّ بالخيرات وشعبه فقير، في حين أنّ نخبة أوليغارشية مالية سياسية تستأثر بمنابع المال في الاقتصاد المحلّي

لذلك تبدي بكين اهتماماً كبيراً بما يحصل في المدن الكازاخية، ويعتبر إعلامها ما يجري “ثورة ملوّنة” من صنع أميركا، على غرار الثورات التي عصفت بأوروبا الشرقية مطلع الألفية الجديدة، أيّام ولاية الرئيس جورج و. بوش. ومع أنّ الأخيرة لا تملك قواعد عسكرية في آسيا الوسطى، إلّا أنّ الشركات الأميركية لديها حضور واسع في الاقتصاد الكازاخي، مثل شركة “شيفرون” التي تتحكّم بـ50% من حقل “تنغيز”، أكبر حقل نفطي في البلاد، الذي يُسهم لوحده بثلث الناتج المحلّي (700 ألف برميل يومياً)، وتملك شركة “إكسون موبيل” الأميركية 25% منه.

بوتين ونظريّة يلتسين

لكازاخستان أهميّة كبرى لدى بوتين. فعدا عن كونها البوّابة الروسية إلى حديقتها الخلفيّة في آسيا الوسطى، فهي إحدى الدول الثلاث التي ذكرها سلفه بوريس يلتسين في نهاية حكمه، قائلاً إنّه يجب إعادة هندسة استقلالها من أجل الأمن القومي الروسي، ويجب ضمّ الشمال الكازاخي الذي يسكن فيه حوالي 3.4 ملايين روسي، وإنّ أيّ انتفاضة أو تمرّد داخل الأراضي الكازاخية يعرّض الأمن القومي الروسي للخطر.

وقد نفّذ بوتين وصيّة يلتسين، عبر انتزاع أبخازيا من جورجيا عام 2008، وجزيرة القرم وإقليم الدونباس من أوكرانيا عام 2014، ولم يتبقَّ من الوصية سوى شمال كازاخستان. وكان من اللافت أنّ بوتين بعد ضمّه القرم عام 2014، أجاب باستهزاء ردّاً على سؤال وُجّه إليه حول ضمّ شمال كازاخستان، قائلاً: “إنّ كازاخستان لم تكن دولة على مدى تاريخها”.

لذلك تتحدّث تقارير إعلامية عن دور لروسيا في ما يحصل، أو على الأقلّ نجحت في تحويل الأزمة الكازاخية إلى فرصة لتعزيز نفوذها في المجال السوفياتي السابق، حسب “نيويورك تايمز”. وما مسارعتها إلى إرسال وحدات عسكرية إلى العاصمة نور سلطان، تحت ستار تنفيذ معاهدة “الأمن الجماعي” الموقّعة عام 1992 بين روسيا وبعض دول آسيا الوسطى، سوى تأكيد على استراتيجية موسكو في إقامة قواعد عسكرية في المناطق التي ترغب في أن يكون لها نفوذ مباشر فيها.

وفي هذا السياق كان لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن كلام بالغ الأهميّة حول هذه النقطة، إذ قال: “ثمّة درس في التاريخ الحديث مفاده أنّه ما إن يدخل الروس بلداً ما، فإنّ إخراجهم منه سيكون أحياناً بالغ الصعوبة”.

منظّمة الدول التركيّة

عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، رفع الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال عام 1991 شعار “أمّة تركية واحدة من الأدرياتيكي (أي من البوسنة) إلى سدّ الصين العظيم”. سعى أوزال إلى إنشاء كيان يجمع الدول ذات العرق التركي في آسيا الوسطى، لكن اغتيل قبل نهاية حكمه، وعاشت تركيا بعده حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي أدّت إلى طيّ المشروع.

ثمّ عاد إلى النور من جديد مع حزب العدالة والتنمية، الذي عمل على مدّ النفوذ التركي في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. فقد تمّ الإعلان عن إنشاء المجلس التركي عام 2009، وهو للمفارقة كان فكرة الرئيس الكازاخي نزار باييف.

بعد نجاح إردوغان في إيجاد موطئ قدم تركي في القوقاز إثر معارك “قره باغ”، أعلن الرئيس التركي في تشرين الثاني الماضي تحويل المجلس التركي إلى “منظمة الدول التركية”، ومقرّها إسطنبول. وهي تضمّ تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان وأوزباكستان، إلى جانب تركمنستان والمجر اللتين تحملان صفة مراقب. ومن أهدافها التحوّل إلى كيان ذي حضور دولي وازن.

وتُعتبر كازاخستان الدولة الأبرز فيها بالنسبة إلى تركيا، إذ بلغ حجم التجارة بينهما حوالي 4 مليارات دولار العام الماضي، والهدف المشترك هو الوصول إلى 10 مليارات دولار. هذا فضلاً عن الاستثمارات التركية في كازاخستان، حيث توجد 400 شركة تركية تعمل في كازاخستان، نفّذت إلى الآن مشاريع بلغت قيمتها 16 مليار دولار، وتوجد أيضاً اتفاقيات أخرى بين الجانبين قيد التنفيذ.

انطلاقاً ممّا سبق، تكمن مصلحة أنقرة في استقرار الأوضاع في آسيا الوسطى. ودعمها للأنظمة القائمة هناك يمنحها أسبقيّة في هذه البقعة الجغرافية المهمّة على حساب الدول الأوروبية التي أصابت رأس حكّام تلك البلاد بالصداع بسبب مطالبتها بمبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان. وهذا ما تبحث عنه أنقرة للتوسّع الاقتصادي والتجاري هناك.

لكازاخستان أهميّة كبرى لدى بوتين. فعدا عن كونها البوّابة الروسية إلى حديقتها الخلفيّة في آسيا الوسطى، فهي إحدى الدول الثلاث التي ذكرها سلفه بوريس يلتسين في نهاية حكمه، قائلاً إنّه يجب إعادة هندسة استقلالها

إيران وإسرائيل في المقاعد الخلفيّة

ليس لإيران حدود مباشرة مع كازاخستان. لكنّ مدينة ميركي جنوب كازاخستان، على الحدود مع قرغيزستان، تعدّ موطئ قدم للنظام الإيراني بسبب سكّانها الشيعة الذين أغلبهم من القوميّة الفارسية (آذريون إيرانيون). وتصف بعض التقارير هذه المدينة بأنّها “قم” كازاخستان، وهي تبعد عن ألما – آتي، العاصمة الاقتصادية، حوالي 120 كلم.

في العموم تبدو العلاقات بين طهران ونور سلطان جيّدة. ولديهما تعاون تجاري معقول، بلغ حوالي 520 مليون دولار عام 2018. كما سبق أن شاركت الدولتان مع روسيا وأذربيجان في مناورات بحرية مشتركة في أيلول الماضي. وتنظر طهران بعين الريبة إلى الاحتجاجات في كازاخستان خوفاً من تحوّلها إلى فيروس قد ينتشر في آسيا الوسطى، بما يشكّل تهديداً حقيقياً لأمنها القومي.

من جانب آخر، تتابع تل أبيب التطوّرات في كازاخستان بقلق كبير، لأنّها أحد زبائن الأسلحة الإسرائيلية، وسوق مهمّة لأدوات الأمن السيبراني الإسرائيلية. في حين أنّ إسرائيل تستورد قسماً من حاجاتها النفطية منها (10-20%). لكنّ الطرفين يحرصان على تغليف علاقاتهما بالكتمان. وسبق أن وقّعت الدولتان اتفاقية دفاع عام 2014 لم يتمّ الكشف عن تفاصيلها مطلقاً. وتعدّ أوزبكستان وكازاخستان العمود الفقري لعلاقات إسرائيل مع العالم الإسلامي في دول الاتحاد السوفياتي السابق.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا: السياسة باتت خطراً على العالم

في المحصّلة، لم تقدّم السلطات الكازاخية أيّ دليل على وجود مؤامرة، على الرغم من حديث رئيسها توكاييف عن مقاتلين من الشرق الأوسط. شبكة العلاقات الدولية المعقّدة التي يمتلكها النظام الكازاخي تمنحه هامشاً عالياً من الأمان، مع أنّه يبقى أكثر قرباً إلى موسكو لاعتبارات تاريخية وسياسية واقتصادية.

وكما هو الحال في المرّتين السابقتين 2011 و2019، قد تنتهي هذه التحرّكات بعد أيام، ولا سيّما بعد استخدام الرئيس الكازاخي مزيجاً من البطش السلطوي والقرارات السياسية والاقتصادية لاحتواء ما يحصل، لكن تبقى النار تحت الرماد. ومع أنّ روسيا تبدو الفائز الوحيد من التطوّرات على الساحة الكازاخية، إلّا أنّ حرب النفوذ في آسيا الوسطى لا تزال في أمتارها الأولى.

مواضيع ذات صلة

اجتياح بري على الأبواب.. هوكستين راجع

بين كواليس المساعي الدبلوماسية التي يتحدّث عنها المجتمع الدولي وظهرت عناوينها من عين التينة، وبين كلام وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت عن تفعيل القوات البرية…

اليوم التّالي: لملمة الشّارع الشّيعيّ و”كولسة” رئاسيّة

قد يمرّ وقت طويل قبل أن يستوعب الداخل اللبناني حجم الإعصار الهائل الذي ضَرَبه باستشهاد الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله. لا يتوقّف الأمر على…

موقف لبنان الرسمي “مكربج”: ربط لبنان بغزّة مستمرّ

يلفّ الغموض موقف لبنان الرّسميّ في التّفاوض على ورقة “النّداء الدّوليّ” لوقف إطلاق النّار في لبنان. المؤشّرات تقول إنّ لبنان لا يزال مُصرّاً على إدراج…

اليوم التّالي: الحلّ بحيويّة داخليّة

غداة الاغتيال المدوّي للأمين العام للحزب ومن قبله وبعده قيادات رفيعة من فريقه، برزت الحكومة اللبنانية إلى الواجهة. الحمل الملقى على عاتقها ثقيل الوطأة وهي…