الرابح الأول حتى الآن مما جرى ويجري في كازاخستان، هو روسيا، التي تدخّلت لانتزاع الفوضى “الأميركية” في كازاخستان، وأطاحت بسيناريو تحريك “الربيع التركي” في آسيا الوسطى، ونجحت في الردّ على محاولة الغرب محاصرتها وتضييق حركتها في البحر الأسود.
قلبت النقلة الروسية السريعة والمفاجئة حسابات الكثيرين في آسيا الوسطى، وتركيا في مقدّمهم طبعاً. فكيف ستكون ارتدادات ما يجري على العلاقات التركية الروسية؟ وهل تفجّر أزمة كازاخستان العلاقات التركية الروسية في آسيا الوسطى أم تقرّبها أكثر؟
بعد مرور 3 عقود على تجدّد حماسة الجماعات القومية التركية وأملها بانبعاث فرص إحياء حلم الكيان التركي الموحّد “من الأدرياتيكي إلى سدّ الصين”، وبعد أسابيع فقط على ولادة مشروع “منظمة العالم التركي” في مدينة إسطنبول، “آستانة الأمس”، جاء الردّ الروسي من قبل فلاديمير بوتين عبر تحريك القوات نحو “آستانة” كازاخستان وبطلب مباشر من قياداتها لإنقاذ البلاد من السقوط بيد آلاف المجموعات “الإرهابية”.
ما يجري في كازاخستان اختبار لخطط ومشاريع وأحلام بناء التكتّل التركي في آسيا الوسطى عبر دمج 136 مليون نسمة وحوالي 5 ملايين كلم مربع وتريليون ونصف تريليون دولار من الدخل القومي، من أجل التعاون في خدمة العالم التركي
أعلنت دول “منظمة العالم التركي” في قمّتها يوم الإثنين المنصرم، عبر قمّة متلفزة، وبعد سيطرة موسكو على الموقف، دعمها السلطات الشرعية في كازاخستان وتجديد الوقوف إلى جانبها.
أهمية موقف الصين
الصمت التركي حتى الآن مقلق ومحيّر في الوقت نفسه. فإمّا أن تكون أنقرة قد سقطت في المصيدة الأميركية التي حسمتها موسكو خلال ساعات، وإمّا أنّها غاضبة بسبب خيارات حليفها وشريكها الرئيس الكازاخستاني الذي رجّح طلب الدعم من روسيا على أن يشعل الضوء الأخضر أمام تكتّل العالم التركي لمساعدته في هذه الأزمة.
من أطلق الرصاصة الأولى في كازاخستان؟ أميركا أم روسيا؟
لا فرق. القناعة هي أنّ تركيا بين المستهدفين والمتضرّرين ممّا يجري.
لحظة قراءة هذه المادّة يكون وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو في بكين لبحث المصالح الإقليمية المشتركة للبلدين في آسيا الوسطى. فهل تفعل الصين ذلك من دون التنسيق مع روسيا بعد إعلانهما مواقف موحّدة من الأزمة في كازاخستان؟ أفضل ما قد ينتج عن الزيارة هو وساطة صينية بين أنقرة وموسكو لترميم العلاقات التي توتّرت بسبب الملفّ الكازاخي وعدم تضخيم المسألة أكثر من ذلك، وقبول حقيقة أنّ الدعم الصيني العاجل لموسكو في خطوتها مرتبط بمصالح بكين في كازاخستان وآسيا الوسطى، وحاجتها إلى الطاقة الكازاخية والمعادن الثمينة المستخرجة من هناك. إذ لن تسير بعد الآن حركة المرور في آسيا الوسطى من دون التخطيط والتجهيز والتنفيذ الروسي.
شكر الرئيس الكازاخستاني توكاييف في خطاب متلفز بشكل خاص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “لقد استجاب بسرعة كبيرة، وقبل كلّ شيء بطريقة ودّيّة، لندائي”.
الرسالة هي للأميركيين في العلن، لكنّها للأتراك في المضمون. فما يجري في كازاخستان اختبار لخطط ومشاريع وأحلام بناء التكتّل التركي في آسيا الوسطى عبر دمج 136 مليون نسمة وحوالي 5 ملايين كلم مربع وتريليون ونصف تريليون دولار من الدخل القومي، من أجل التعاون في خدمة العالم التركي. والكرة في ملعب موسكو لتقول كلمتها بهذا الشأن. هل تطالب روسيا غداً بانضمامها هي الأخرى إلى منظمة الدول التركية لأنّها تستقبل أكبر أقليّة تركية فوق أراضيها؟
بوتين استهدف تركيا
لعب بوتين أكثر من ورقة في أزمة كازاخستان باحترافية مطلقة. وتستهدف مناورته الالتفافية هذه تركيا قبل أميركا والغرب، فهو:
– ألزم القيادة الكازاخية بالتنسيق معه وإعطائه ما يريد في كازاخستان.
– ذكّر بدور وأهمية منظمة الأمن الجماعي التي تضمّ جمهوريات تركية. والرسالة الأولى هي لأنقرة، وتفيد بأنّها لن تستطيع لوحدها إبعاد هذه الدول عن الفلك الروسي.
– أشرف على دخول قوات أرمنية إلى كازاخستان نفسها للقول إنّ التوازنات الحقيقية في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز هو وحده من يملك مفتاح اللعبة فيها.
– حرّك ورقة الأقليّة الروسية في كازاخستان لتكون جاهزة للتفجير إذا ما حاولت نور سلطان التمرّد أو الابتعاد عن موسكو باتجاه الغرب أو أنقرة نفسها.
– تسلّم دفّة القيادة في آسيا الوسطى من الجانب الكازاخي الذي كان يساهم مع تركيا في تفعيل مشروع العالم التركي الذي سيكون بعد الآن تحت رحمة اللاعب الروسي.
– حاصر التحرّك التركي الاستراتيجي في آسيا الوسطى، وخطط الاستثمارات التركية في كازاخستان وفي جغرافيا آسيا الوسطى وطريق الحرير والقوقاز والبلقان عبر الهبوط مع مظليّيه وسط لعبة المعادلات التركية الإقليمية الجديدة.
– قطع الطريق على محاولة تركيّة للمشاركة مع روسيا في صناعة الحلّ للأزمة الكازاخية، إذ تعلّم كما يبدو من دروس ملفّ أذربيجان والحرب في قرة باخ.
– حال دون محاولة غربية لإسقاط كازاخستان، منطقة أخرى في حديقة بلاده الخلفيّة، بيد الغرب أو خروجها عن الإرادة الروسية، تماماً كما فعل مع بيلاروسيا وجورجيا وقرة باخ في أذربيجان.
– ترك أنقرة أمام تساؤل لن تحصل على إجابة عنه، ويتعلّق بمحاولة معرفة ما الذي يدفع كازاخستان إلى طلب النجدة الروسية خلال ساعات إذا ما كانت تحاول بناء معادلات وتوازنات جديدة في علاقاتها مع روسيا والغرب ومجموعة الدول التركية والصين؟
تداعيات في سوريا وليبيا؟
سيكون للتوتّر التركي الروسي بسبب كازاخستان ارتداداته ليس فقط على علاقاتهما الثنائية، بل على ملفّات تعاون وتنسيق إقليمي واسع يمتدّ إلى سوريا وليبيا وإفريقيا وشرق المتوسط وجنوب القوقاز وأفغانستان. ولن تغامر أنقرة وتضحّي بكلّ هذه الملفّات وتصعّد مع بوتين في كازاخستان كما يريد البعض في الداخل التركي.
سيتحوّل الأسلوب الروسي الجديد المعتمد في آسيا الوسطى والبلقان والقوقاز حتماً إلى نموذج يُحتذى به صينياً وإيرانياً في التعامل مع ملفّات إقليمية ساخنة عديدة. وعلى دول المنطقة الاستعداد باكراً لمثل هذا السيناريو، وعدم الرهان على قدرات واشنطن في الحؤول دونه. فالبيت الأبيض سيقدّم مصالحه على مصالح الآخرين، تماماً كما فعل في العراق وأفغانستان، ويفعل اليوم في المحادثات النووية مع طهران.
إقرأ أيضاً: مواجهة روسيّة تركيّة في كازاخستان تحت الطاولة؟ (2/1)
إذا ما كان الذئب قد قرّر افتراس الحمل فلا قيمة لذريعة اتّهام الأخير بتلويث مياه النهر وهو في أسفل المجرى، فيما الذئب يشرب من المنبع.