قبل أن تُصدر المحكمة الاتحادية العليا “أمرها الولائي” بتعليق نتائج الجلسة الأولى للبرلمان الجديد، التي شهدت التجديد لمحمد الحلبوسي رئيساً لدورة ثانية، وانتخاب نائبيْه، الأوّل عن الكتلة الصدرية، والثاني عن الحزب الديموقراطي الكردستاني، كانت الأنظار، وما تزال، تتّجه نحو الحكم الذي يمكن أن يصدر عن هذه المحكمة. وتحديداً في ما يتعلّق بالشكويَيْن اللتين تقدّم بهما كلّ من رئيس السنّ لهذه الجلسة محمود المشهداني (رئيس أسبق للبرلمان) حول دستورية الجلسة، والنائب المستقلّ باسم خشان حول ملفّات فساد يتّهم الرئيس المنتخب بالتورّط فيها.
“الأمر الولائي” للمحكمة الاتحادية علّق النتائج، وأدّى أيضاً إلى تعليق التصعيد في المعركة السياسية، لأنّه أعاد فتح باب حوارات جديدة داخل المكوّنات وبينها، خاصة داخل المكوّنين الشيعيّين، بين قوى “الإطار التنسيقي” (القريبة من إيران) والتيار الصدري، وداخل المكوّن الكردي، بين الحزبين الديموقراطي والاتحاد الوطني، وذلك على أمل التوصّل إلى تفاهمات تخرج هذه الأطراف من دائرة المواجهة المحتملة، وتسهّل الابتعاد عن التفجير المفتوح على جميع الاحتمالات.
“الأمر الولائي” للمحكمة الاتحادية علّق النتائج، وأدّى أيضاً إلى تعليق التصعيد في المعركة السياسية
وكانت العاصمة بغداد قد شهدت سلسلة أحداث أمنيّة بعد قرار المحكمة الاتحادية، منها إطلاق صواريخ على السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، واعتداء على مقرّ تحالف عزم وتقدّم في منطقة الأعظمية. وقد تنوّعت الآراء حول دوافعها، التيار الصدري والحزب الديموقراطي الكردستاني وتحالف عزم وتقدّم، الذين كشفوا تحالفهم بقصد الاستحواذ على الرئاسات الثلاث، وجّهوا أصابع الاتّهام إلى الفصائل المسلّحة وقوى “الإطار التنسيقي” الذي يتزعّمه حتى الآن رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. في حين اتّهمت الفصائل القريبة من إيران طرفاً ثالثاً (مجهولاً) يسعى إلى جرّ الأمور إلى مواجهة بينها وبين أطراف التحالف. فيما رأى آخرون أنّ جهة ما تقف وراء هذا الاعتداء بهدف تعميق جراح “الإطار التنسيقي” وتعقيد المشهد أمامه لإجباره على الانسحاب والتراجع والقبول بالأمر الواقع.
مرشّح تسوية للرئاسة؟
وجاءت سريعة ردّة فعل المكوّن الكردي على مؤشّرات الانقسام بين الاتحاد والديموقراطي. فتوزّعت بين محاولات الحرص على وحدة الصف الداخلي، وبين عدم التحسّب من الذهاب إلى انقسام عمودي قد يُحوّل الإقليم إلى إقليمين (أربيل للديمقراطي والسليمانية للاتحاد الوطني). وقد تنتهي خطوة ترشيح وزير المال الأسبق هوشيار زيباري لمنصب رئيس الجمهورية في مواجهة مرشّح الاتّحاد برهم صالح، إلى لعبة تصعيدية ظاهرياً، مهمّتها تسهيل التوافق على “مرشّح تسوية” بين الطرفين.
في مقابل ذلك، بدأت سلسلة تحرّكات تحت عنوان “العودة إلى تفعيل الحوار”، يقودها زعيم تحالف الفتح هادي العامري الذي استقبل بعد الجلسة البرلمانية الإشكالية رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي في منزله. وقد وضع البعض هذه الزيارة في إطار مساعي الكاظمي لتذليل العقبات أمام عودته إلى رئاسة الوزراء، بالإضافة إلى الانفتاح غير المسبوق له على أزمات مدينة النجف التي زارها قبل الجلسة البرلمانية وبعدها والتقى فيها زعيم التيار الصدري، لمعالجة أزمة المحافظ من خلال تغييره وتكليف بديل.
وإذا ما كانت زيارة العامري للصدر في النجف قد حملت بعض المعنيّين على اتّهامه بتمهيد الطريق أمام تسوية بينهما تؤدّي إلى خلخلة الإطار التنسيقي، فإنّ هذا البعض لا يستبعد أيضاً إمكانية أن ينضمّ آخرون من الإطار إلى خطوة العامري، الأمر الذي سيؤدّي إلى عزل المالكي وقيس الخزعلي زعيم عصائب أهل الحقّ سياسياً، ومحاصرتهما خارج السلطة من دون أيّ دور أو مشاركة.
إعادة خلط الأوراق هذه قد لا تقف عند حصول انزياحات في التحالفات، خاصة أنّ الانقسام بدأ يتركّز داخل المكوّن الشيعي. وقد يتعزّز في حال استطاع المكوّن الكردي تركيب تسوية رئاسية تمنع اتساع الصدع بين طرفيْه الرئيسيّيْن. بل قد تتعمّق على خلفيّة الموقف المؤيّد الذي أعلنته قوى “الإطار التنسيقي” لقرار المحكمة “الولائي”، وذلك في حال لجأت هذه المحكمة إلى إعلان دستورية ما حصل في الجلسة البرلمانية الأولى. حينها تسقط آخر الأوراق التي يمتلكها “الإطار” لممارسة ما تبقّى له من ضغوط تمنع إخراجه من العملية السياسية. خصوصاً في ظلّ عدم قبول أيّ من الطرفين الذهاب إلى خيار الموالاة والمعارضة.
المعارضة تعني الإقصاء؟
ولعلّ أبرز إفرازات هذه التطوّرات والتداعيات أنّها كشفت بوضوح أزمة القوى والأحزاب العراقية عامّة، وجماعة الإسلام السياسي خاصّة، وتحديداً داخل المكوّن الشيعي، وعجزها وعدم إتقانها للعب دور المعارضة. إذ تعتقد أنّ استمرارية وجودها السياسي والاجتماعي مرهون ببقائها واستمرارها داخل السلطة، إمّا ممسكةً بها، أو متحكّمةً، أو متفرّدةً، أو شريكةً فاعلةً فيها.
ويبدو أنّ الفهم الأوّليّ لـ”المعارضة” لدى هذه القوى في جميع المكوّنات، وهنا قد لا يكون التعميم تعسّفيّاً، هو أنّها تعني الإلغاء أو التهميش أو العزل تمهيداً للإخراج الكلّي من الحياة السياسية. وهو مفهوم تكرّسه وتساهم في ترسيخه ممارسة الطرف المتغلّب أو الغالب أو المتبنّي لمبدأ تبادل السلطة على أساس الأغلبيّة والأقلّية، أو الموالاة والمعارضة. وذلك لأنّ الطرفين يريان هذين المفهومين، الموالاة والمعارضة، من منطلق الممارسات السابقة للنظام البعثي وحكم الرئيس صدّام حسين.
فالمعارضة التي خاضتها هذه القوى والأحزاب، بمختلف انتماءاتها المكوِّناتيّة، قامت على تعظيم البعد العسكري على حساب البعد السياسي وحتى الاجتماعي. فكانت مساعي المعارضة السنّيّة هي الإعداد المتكرّر لانقلاب عسكري من داخل المؤسسة العسكرية ضدّ النظام البعثي. في حين تركّز وتمحور الجهد الكردي على الحرب مع النظام وجيشه من أجل الحصول على اعتراف بالحكم الذاتي. فيما اكتفت المعارضة من المكوّن الشيعي، بكلّ أطيافها الرئيسية (حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى)، بالعمل العسكري من الخارج باتجاه الداخل، أي من مناطق لجوئها في الجوار العراقي، وتحديداً إيران، لاستهداف قيادات النظام، مع عجز وعدم قدرة على اختراق منظومته الأمنيّة التي تتيح لها التفكير في الانقلاب عليه.
من هنا فإنّ ما نجحت به هذه المعارضة هو بناء منظومة أمنيّة وعسكرية بمساعدة إيرانية حصريّة، وتمثّلت في تشكيل “منظمة بدر”، الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، بقيادة السيد محمد باقر الحكيم. وتولّى قيادتها بدايةً جمال إبراهيم (أبو مهدي المهندس)، ثمّ هادي العامري، قبل إعلان انشقاقه عن المجلس الأعلى الذي أسقط صفة “الإسلامي” من اسمه.
إقرأ أيضاً: 5 حقائق عراقية: بارزاني والصدر.. يتقدمان على إيران
جاء هذا التركيز على البعد العسكري على حساب العمل داخل هذه القوى على بناء مفهوم للدولة ينسجم مع رؤيتها الأيديولوجية ويستجيب لتحدّيات المرحلة التالية بعد تسلّم السلطة. خاصة حزب الدعوة الإسلامية المتأثّر بالتجربة الإخوانية ومبانيها الفكرية المتعلّقة بالدولة والمجتمع. وقد حال هذا التركيز وآليّة التفكير الشمولي دون بذل أيّ جهد لفهم واستيعاب على الأقلّ التجربة الإيرانية ما بعد انتصار الثورة، على الرغم من إشكالاتها وإشكاليّاتها. خصوصاً أنّها تجربة لم تقطع مع الإرث التاريخي في بناء الدولة وفكرها، وهي نتيجة الاجتماع الإيراني وليس السلطة. فالتراكم المعرفي والتجارب السياسية لهذا الاجتماع وضعت إيران مطلع القرن الماضي سنة 1906 في عداد ثماني دول قامت السلطة فيها على أساس دستور مكتوب ومدوّن مهمّته تنظيم العقد السياسي والاجتماعي وإدارة الدولة والسلطة والنظام.