أسدل العام 2021 ستاره وأطلّ العام 2022 والمسيحيّون اللبنانيون منقسمون مشرذمون. لا مساحة حوار تجمع مكوّناتهم السياسية.
حاولت مرجعيّتهم الدينية جمعهم على كلمة سواء، وفشلت.
يحدث كلّ ذلك والأخطار تتهدّد وجودهم وحضورهم السياسي. نكتفي بذكر اثنين منها:
1- الخطر الديموغرافي المتعاظم: إنّه خطر يتهدّد المسيحيين وعمره من عمر “لبنان الكبير”. تفاقم خلال الحرب، بخاصة خلال حرب الإلغاء التي شنّها العماد ميشال عون ضدّ القوات اللبنانية وبعدها. وها هو يعود في عهده بعد الانهيار الكبير وانفجار مرفأ بيروت. أرقام المهاجرين والراغبين في الهجرة تخيف المرجعيات الدينية والسياسية المسيحية في ظلّ عجز كامل عن إيقافها. ومن المرشّح أن تزداد في العام 2022 نتيجة عجز المنظومة الحاكمة عن القيام بأيّ خطوة لإيقاف الانهيار واجتراح حلول للخروج من الأزمة.
2- “المؤتمر التأسيسي“: هو الخطر الثاني الذي يكثر الكلام عنه أكثر فأكثر في ظلّ تحلّل الدولة ومؤسّساتها وانهيار النظام السياسي والاقتصادي والنقدي والمالي… وقد عبّر البطريرك الماروني بشارة الراعي أكثر من مرّة عن خشيته من مؤامرة لتدمير الدولة والدفع باتجاه “مؤتمر تأسيسي”. ويخشى المسيحيين أن يفرض هذا المؤتمر “المثالثة” في الحكم، خاصة أنّه اقتراح “الأمّ الحنون”، إذ سيؤدي حُكماً إلى تراجع دورهم وحضورهم السياسيَّيْن. والمثالثة هي تقسيم السلطة بين ثلث مسيحي وثلث سنّي وثلث شيعي، بدل المناصفة بين المسلمين، كلّهم، وبين المسيحيين.
أسدل العام 2021 ستاره وأطلّ العام 2022 والمسيحيّون اللبنانيون منقسمون مشرذمون. لا مساحة حوار تجمع مكوّناتهم السياسية
هذان الخطران دفعا البطريركية المارونية، المرجعية الوطنية لكلّ المسيحيين في لبنان، على اختلاف طوائفهم، إلى العودة للواجهة السياسية، ليس فقط للدفاع عن المسيحيين ووجودهم، بل وعن لبنان ووجوده أيضاً. وفي ظلّ ارتباك كلّ الأطراف وتخبّطها، طرحت بكركي في 2021 اقتراح “الحياد” وعقد “مؤتمر دولي” من أجل إنقاذ لبنان. وستكمل نضالها من أجل تحقيقهما في العام 2022 عبر تسويق الطرحين داخلياً وإقليمياً ودولياً.
لكن كيف؟ ومن خلال أيّة آليّة؟ وهل تنجح؟
الغموض سيّد الموقف. غموض ربّما يعكس الغموض في الطرح نفسه (الحياد الإيجابي الناشط) الذي لم يتبلور حتى الساعة في مشروع متكامل من كلّ جوانبه القانونية والسياسية والجيوسياسية وفي أبعاده الداخلية والإقليمية والدولية.
ماذا في 2022؟
على صعيد موازين القوى بين الأطراف المسيحية، سيُظهِّر العام 2022 واستحقاقاته الانتخابية تبدّلاً فيها، على الشكل الآتي:
1- التيار الوطني الحرّ سيخوض الاستحقاقين الانتخابيّين بقلق كبير. فهو يواجه تراجعاً غير مسبوق في شعبيّته لعدّة أسباب أبرزها: فشل عهد ميشال عون، انكشاف حقيقة وعوده الواهمة بخاصة حول الإصلاح والتغيير، وحول سياسات جبران باسيل ومعاركه ضدّ كلّ الأطراف التي جعلته معزولاً على أبواب انتخابات نيابية، وبسبب فساد الوزارات التي تسلّمها التيار الوطني الحرّ وأبرزها وزارة الطاقة والمياه، وسوء تعامل ميشال عون مع “17 تشرين”…
الخطاب العوني المتجدّد تحت عنوان “ما خلّونا”، والمستجدّ حول التفاهم مع حزب الله، من باب الخلاف العلني معه، يهدف إلى استعادة بعض الشعبيّة المسيحية. لكنّه لن ينفع. بدوره سيحاول حزب الله التعويض على التيار بدعمه في دوائر في جبل لبنان وبيروت والجنوب والبقاع. رغم التراشق السياسي العلني!. ومع ذلك لن يكون للتيار عدد النواب الذي كان له في انتخابات 2005 و2009 و2018، وهو ما سيؤكّد احتضار “الحالة العونية” في عهد عون.
القلق الثاني للتيار هو رئاسة الجمهورية التي وضعها جبران باسيل نصب عينيه غداة انتخاب عمّه ميشال عون. تحكّم بالعهد وكأنّه وريث الجمهورية، كما كان وريث التيار. لكنّ “حساب الحقلة غير حصاد البيدر”. بعد “17 تشرين” والـ”هيلا هيلا هو” ضدّه وتسارع الانهيارات، أصبح جبران قلقاً من عدم ضمانه مقعده الشخصي، نائباً عن البترون.
2- حزب القوات اللبنانية يستعدّ للانتخابات النيابية المقبلة وكلّه ثقة بأنّه سيُحرِز نجاحاً كبيراً يجعل من كتلته النيابية الكبرى مسيحيّاً، فيصبح رئيسه سمير جعجع الزعيم المسيحي الأوّل. تساهم عدّة عوامل في نجاح القوات:
1) تراجع شعبية خصمه الأول التيار الوطني الحرّ، مع العلم أنّ من يخسره التيار، محازباً كان أم مناصراً، لن تربحه القوات لا محازباً ولا مناصراً.
2) بقاء القوات خارج دائرة الأحزاب المتّهمة بالفساد، لا بل بروزها محاربةً له حتّى قبل “17 تشرين”.
3) ثبات القوات في مواقفها السياسية الداخلية (بناء الدولة “الفعلية”، معارضة سلاح حزب الله)، والإقليمية (مع الدول العربية وأبرزها دول الخليج) والدولية (مع المجتمع الدولي وقراراته).
مقابل هذه العوامل الإيجابية لا يبدو أنّ القوات ستُحرز نجاحاً كاسحاً في الشارع المسيحي. فمزاج المسيحيّين تبدّل بعد 17 تشرين وبعد سلسلة الانهيارات في النظام والدولة. ربّما يأخذ سمير جعجع بعين الاعتبار هذا التبدّل. لذلك هو قلِق بعض الشيء من منافسة المجتمع المدني له (اللاعب الجديد في الساحة السياسية) في بعض الدوائر.
القوات المطمئنّة إلى الاستحقاق النيابي، قلقة حيال الاستحقاق الرئاسي الذي من المفترض أن يجري قبل نهاية العام 2022. يعي تماماً سمير جعجع، الطامح إلى رئاسة الجمهورية، استحالة وصوله إذا لم يطرأ تبدّل جذري داخلي وإقليمي يقلب المعادلة رأساً على عقب ضدّ حزب الله وإيران. مفاوضات فيينا لا تَشي بذلك، لا بل تشير إلى عكس ذلك.
تبدّل موازين القوى لدى المسيحيين لن يبدّد الأخطار التي تتهدّد وجودهم ووجود لبنان. لا بل تُفاقمها انقساماتهم وصراعاتهم السياسية فيما بينهم
3- حزب الكتائب اللبنانية، الذي يتراجع حضوره على الساحة المسيحية أكثر فأكثر، يعيش حالة تخبّط سياسي ستظهر في انتخابات 2022. ربّما يعكس هذا التخبّط حال رئيسه الشابّ الذي أراد أن يكون له حزب شبابيّ (لبنانُنا)، فإذا به، بعد استشهاد شقيقه، يجد نفسه رئيساً لحزب “العائلة” الذي يناهز عمره مئة عام. وقد فشلت الكتائب في تشكيل جبهة معارضة سياسية لخوض الانتخابات النيابية. ورفض أطراف في المجتمع المدني التحالف معها على الرغم من دعمها له. تصويبه على القوات في المرحلة الأخيرة بهدف استمالة بعض شعبيّتها، يعطي نتائج عكسية.
4- تيار المردة يترقّب الاستحقاقين النيابي والرئاسي بقلق كبير. على المستوى النيابي يخشى أن يؤثّر دعم حزب الله للوائح التيار الوطني الحرّ على تراجع حضوره النيابي خارج معقله في زغرتا. وفي حين يعتبر سليمان فرنجية أنّ في تشرين الأول المقبل سيكون “دوره” للرئاسة، فهو ليس مطمئنّاً لسببين: طموح جبران باسيل القويّ إلى الرئاسة، وحال الانهيار الحاصل الذي من شأنه “حرق” أيّ رئيس مقبل إذا لم يتراجع حزب الله عن هيمنته على الدولة ومؤسّساتها وتدخّلاته العسكرية في الإقليم، ويصلح لبنان علاقاته الخليجية.
5– الشخصيات السياسية المسيحية تستعدّ لتؤكّد حضورها على الساحة السياسية من خلال انتخابات 2022. غالبيّتها ستخوض الانتخابات مستقلّة عن الأحزاب، من جهة بسبب طبيعة القانون الانتخابي (الحاصل الانتخابي والصوت التفضيلي)، ومن جهة أخرى بسبب تبدّل المعطيات بعد “17 تشرين” والانهيار. الشخصيات التي استقالت من تكتّلاتها النيابية، وفيما بعد من المجلس النيابي، اقتربت من المجتمع المدني. هل تتحالف معه في الانتخابات النيابية المُقبلة؟ لا تبدو المسألة بهذه السهولة.
6- المجتمع المدني، العابر للطوائف، يبدو أنّه سيكون حاضراً في الساحة المسيحية أكثر من غيرها في انتخابات 2022. إلا أنّ تخبّطه في تشكيل لوائح انتخابية وتجاربه الانتخابية النقابية، لا يشيران إلى أنّه سيُحرز نجاحاً كبيراً كما تسوِّق بعض شخصيّاته، وكما يتوقّع ويتمنّى داعموه الدوليون.
إقرأ أيضاً: إلغاء المسيحيّين وتقزيم السُنّة وتدجين الدروز
تبدّل موازين القوى لدى المسيحيين لن يبدّد الأخطار التي تتهدّد وجودهم ووجود لبنان. لا بل تُفاقمها انقساماتهم وصراعاتهم السياسية فيما بينهم. صراعاتهم الماضية وتاريخ زعاماتهم وخطاباتهم الحالية لا تشير إلى أنّهم سيتّفقون على إيجاد مساحة حوار بينهم بعد الانتخابات النيابية. في ظلّ هذا الوضع، هل يبقى لسباق الفوز برئاسة الجمهورية “المسيحية” من أهمية؟!
رئاسة ميشال عون العاجزة خير مثال.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية