إنّهم يحضّرون أرواح داعش في وسائل الإعلام اللبنانية. يستحضرون ذكرها، مستندين إلى معلومات يبدو واضحاً أنّ مصدرها أجهزة أمنيّة. أجهزة توزّع منذ أسابيع على صحافيّين من مراتب مختلفة أخباراً مزعومةً عن اقتراب عودة داعش إلى لبنان.
تارةً نقرأ بأقلام صحافيين أمنيّين، وطوراً نجدها لدى صحافيين من كتّاب التحقيقات الاجتماعية، وطبعاً وصلت إلى صحافيّي الرأي.
وعلى ما يبدو فإنّ موزّع هذه الأخبار في الأسابيع الأخيرة كان أكثر احترافاً من قبل. فلم ينشر أخباراً عن داعش في جرائد الممانعة والجرائد المعادية للبيئة السُنّيّة وحسب، بل وزّعها أيضاً على صحافيين في مواقع مختلفة، فوصلت إلى موقع “الحرّة” وإلى mtv و”المدن”، وليس فقط في “الأخبار” و”الميادين” و”ميديا فاكتوري”.
إنّهم يحضّرون أرواح داعش في وسائل الإعلام اللبنانية. يستحضرون ذكرها، مستندين إلى معلومات يبدو واضحاً أنّ مصدرها أجهزة أمنيّة. أجهزة توزّع منذ أسابيع على صحافيّين من مراتب مختلفة أخباراً مزعومةً عن اقتراب عودة داعش إلى لبنان
المشترك بين كلّ هذه الأخبار والتقارير أنّها تفتقر إلى “المعلومة الصلبة”، كأن يكون هناك أسماء كاملة أو عناوين أو تفصيل للعمليات التي منعها “الأمن الاستباقي”، حتى ليبدو أنّها أخبار عن “أشباح” داعشية. لكنّها في حقيقة الأمر “تحضيرٌ” لأرواح هذا التنظيم، الذي تنمو تحت جلد اسمه الكثير من عمليات الأجهزة، ورسائل الميليشيات. وفي المواقع والوسائل الإعلامية غير الممانعة، تتسلّل أخبار “عودة داعش” على شكل “معلومات خاصّة”. وبها يستفزّ الأمنيّ المعنيّ غريزة الصحافي بإيهامه أنّه يعطيه “سكوب”، كي ينشر ما يريد في اللحظة السياسية أو الأمنيّة التي يريدها:
1- في الأوّل من نيسان 2021، نشرت صحيفة “الجمهورية” تحقيقاً بعنوان “إرهابيّو داعش دخلوا لبنان”. وكرّت بعدها سلسلة الأخبار. وكُتب التالي: “خلال المرحلة الأخيرة لاحظت العواصم الأوروبية تسرّب إرهابيين إلى لبنان، يحملون جنسيّات فرنسية وأوروبية، وهم من أصول عربية – إفريقية”. ولم يشرح التحقيق من هي هذه العواصم وكيف حصل على المعلومات.
2- في الأوّل من تشرين الأوّل 2021، نشر موقع mtv عن مصادر أمنيّة أنّ “مخابرات الجيش أوقفت خليّة لداعش في باب التبّانة بطرابلس… في المرحلة الأولى من نشاطاتها.. ما جنّب لبنان سلسلة عمليات أمنيّة”.
3- في 30 تشرين الثاني 2021، أي منذ شهرين، نشرت جريدة “الأخبار” تقريراً تحدّث عن “عودة داعش لتجنيد لبنانيّين”، نقل عن مصادر أمنيّة أنّ “35 شاباً بين 16 و20 عاماً غادروا منازلهم قبل سنة من الشمال وأبلغوا أهاليهم أنّهم التحقوا بداعش في سوريا والعراق”. وحذّر التقرير “من احتمال لجوء الغرب إلى استخدام هؤلاء في أنشطة ذات طابع إرهابي داخل لبنان مع ارتفاع منسوب التوتّر الداخلي”. وهنا تتوضّح الرسالة.
في كانون الأوّل 2021، تسارعت “التسريبات”، كأنّ هناك من يستعجل نشر “الأجواء الداعشية” قبيل عمل أمنيّ ما يتمّ تحضير “أبو عدس” جديد ليكون بطله.
4- في 6 كانون الأوّل 2021 نشر موقع “المدن” مقالاً بعنوان “إشارات لبنانية من داعش”، وفيه أنّ “التنظيم سيستفيد من انسحاب أميركا من أفغانستان”، وأنّه “استهدف البشمركة في شمال العراق، وبلدة في شمال كركوك، وعمّال نفط في شرق سوريا، ومستشارين إيرانيين في دير الزور”، ليستنتج أنّ “إغلاق أيّ أفق تغيير في مجتمعاتنا في ظلّ الفشل السياسي والاقتصادي” هو واحد من “ظروف نموّ التطرّف”، و”هذه شروط متوافرة في لبنان اليوم أكثر من أيّ وقت مضى”!
5- في 8 كانون الأوّل 2021 نشرت “الأخبار” أنّ “تعزيزاتٍ أمنيّة وعسكرية شوهدت على حدود عكّار… بعد وصول معلومات عن توجّه لدى عدد كبير من مناصري داعش لمغادرة لبنان عن طريق وادي خالد… و35 شاباً بين 16 و20 عاماً غادروا قبل سنة منازلهم وأبلغوا أهاليهم أنّهم التحقوا بداعش في العراق”. في تكرار لمعلومة نشرتها “الأخبار” في 30 تشرين الثاني السابق.
6- في 31 كانون الأوّل 2021 نشر موقع “الحرّة” أنّ “داعش يستقطب شباب لبنان إلى العراق”، وكان الوحيد الذي حاور عائلاتٍ غادر أبناؤها لبنان. لكن ما بدا ثابتاً في الشهادات أنّ هؤلاء غادروا لبنان، ولم “يعودوا” إليه. وذلك لأسباب ماليّة أكثر منها عقائدية.
7- في 3 كانون الثاني 2022 نشر موقع “أساس” تحقيقاً بعنوان “من يدعو الدعشنة إلى طرابلس؟”، وفيه أنّ “الأمر الأكثر أهميّة في القضيّة هو: لماذا طرابلس فقط؟ لماذا اختار تنظيم داعش أو من قام بالتجنيد مدينة طرابلس لا غيرها من المدن اللبنانية لإغواء شبابها وحضّهم على الهجرة من أجل القتال؟”، وأضاف: “التركيز على طرابلس مثير للريبة والخوف، وفي الوقت نفسه جرس إنذار ضخم يشير إلى جلباب الإرهاب الذي يُراد دوماً إلباسه لطرابلس التي كابدت كثيراً للخلاص منه. والسؤال ليس: كيف خرجوا وأيّ طرق سلكوا؟ السؤال الحقيقي: ماذا يُطبَخ لهذه المدينة في الأقبية المظلمة؟ ماذا يُعَدّ لأهلها وناسها؟”.
8- في 6 كانون الثاني 2022 نشر موقع “ميديا فاكتوري” مقالاً بعنوان “داعش.. العودة”، وفيه يشرح أسباب عودة داعش إلى العراق وسوريا. لكنّ العنوان في موقع لبناني يوحي بغير مضمونه.
9- في 6 كانون الثاني 2022 نشر أيضاً موقع “درج” تقريراً لمنتظر الخارسان (صحافي عراقي) بعنوان “داعش يعود إلى عمليات الإعدام المصوّرة: إلى أيّ مدى يجب أن نقلق”، وفيه ينقل عن الباحث قبس الموصلي أنّ “الطريقة التي روّج بها داعش هذه المرّة لصورته الإعلامية، مع إعادة تفعيل الحسابات الإلكترونية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تنطوي على إشارات بأنّ قدرته العددية القتالية لا تزال موجودة، وأنّ إمكاناته اللوجستية متوافرة”. فهل هذا يعني أنّ ثمة تمويلاً عاد ليفتح الحنفيّة لـ”داعش” وصورته؟
10- في 7 كانون الثاني 2022 نشر موقع “ميديا فاكتوري” تحقيقاً بعنوان “طرابلس تحت خطر الإرهاب مجدّداً… شبّان يلتحقون بداعش في العراق والجيش يقدّم ضمانات للراغبين بالعودة”، وفيه نقلت عن عضو هيئة العلماء المسلمين نبيل رحيم أنّ سبب خروج شبّان من طرابلس إلى العراق للالتحاق بداعش هو “الشعور بالظلم بسبب صدور أحكام قاسية بحقّهم عن المحكمة العسكرية”.
“رواية داعش” خلال الشهرين الأخيرين، أنّ هناك من “خرج”، وليس هناك من “دخل”. وبالتالي فإنّ لبنان، في المحصّلة، ليس في دائرة الاستهداف
الجيش وقوى الأمن
تخلّل هذا “التحضير للأرواح” بيانٌ للجيش اللبناني في 3 كانون الأوّل الفائت عن “توقيف مواطن لبناني اعترف بأنّه بايع داعش”، وبيانٌ لشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي في 23 من كانون الأوّل نفسه عن توقيف “وحشي الانغماسي” في مخيّم عين الحلوة “المطلوب بجرائم الانتماء إلى تنظيم إرهابي وحيازة أسلحة حربية”، واعترف أنّه “التحق بداعش في 2015 وشارك في معارك داخل المخيّم”.
وفي حين نشر الجيش حرفين من اسم الموقوف (م.س.)، فإنّ قوى الأمن لم تنشر اسمه. لذا يمكن القول إنّ هذين الموقوفين لا نعرف عنهما سوى أنّهما اعترفا بمبايعة داعش والقيام بعمليات معها، ولا نعرف أيّ عمليات قاموا بها، في لبنان أو خارجه، وما هي الخسائر التي تسبّبا بها للمجتمع اللبناني أو لأيّ دولة أخرى.
ليس هذا تكذيباً للأجهزة الأمنيّة. لكنّ الإعلان عن توقيف “دواعش” يُفترض أن يكون أكثر “شفافيّةً”، خصوصاً أنّ هناك حكايات كثيرة عن توقيف “مجهولين” متّهمين بالانتماء إلى تنظيمات متطرّفة، كان يتبيّن لاحقاً أنّهم ضحايا “تقارير أمنيّة” كيديّة أو كاذبة أو صورة على هاتف.
إقرأ أيضاً: من يدعو الدعشنة إلى طرابلس؟
الخلاصة:
الأهمّ في خلاصة “رواية داعش” خلال الشهرين الأخيرين، أنّ هناك من “خرج”، وليس هناك من “دخل”. وبالتالي فإنّ لبنان، في المحصّلة، ليس في دائرة الاستهداف.
وبالطبع لا يمكن اتّهام الزملاء أعلاه بأنّهم يشاركون في جلسة تحضير الأرواح الداعشية عن سبق إصرار وتصميم. لكنّ الأكيد أنّهم شاركوا في إشاعة أجواء لا تخدم إلا فكرة واحدة، صمّمها منذ عشرات السنوات، ونفّذها وأتقن تنفيذها، طرف واحد. استعملها في سوريا لـ”دعشنة الثورة” وتسهيل نحرها. واستعملها في العراق لـ”دعشنة” الدور السنّيّ وضرب مجتمعه وإرهاقه سياسياً واجتماعياً. واليوم يبدو أنّ انفراط القيادة السياسية السنّيّة، يستبقه الطرف نفسه بتوجيه الرسائل من كلّ حدب وصوب، بأنّ “داعش” هي البديل. الطرف نفسه الذي فرض داعش ممثّلاً سنّيّاً في سوريا والعراق، قبل أن “ينهش” هذين البلدين، ومدنهما السنّيّة أوّلاً وأخيراً.
إنّها جلسة تحضير أرواح. وثمّة حكايات كثيرة عن مشايخ ومشعوذين، حضّروا الأرواح، ثمّ عجزوا عن صرفها، فأكلتهم بعدما أنهت مهمّتها القذرة.