لماذا ترفع المصارف سعر الدولار؟

مدة القراءة 7 د

عاد سعر صرف الدولار إلى الارتفاع منذ الساعات الأولى على دخولنا السنة الجديدة، ولم يمنع يوم العطلة (السبت) ولا نهاية الأسبوع (الأحد)، تطبيقات الهواتف الذكية من التلاعب بالدولار صعوداً إلى حدود 29 ألف ليرة في حينه. أمّا مع بداية أوّل أسبوع من السنة يوم الإثنين، فكان ارتفاع الدولار ناريّاً مع بلوغه عتبة قياسية جديدة، إذ بلغ 30 ألف ليرة للشراء و29,500 ليرة للمبيع.

فشلت الرهانات المعقودة على التعميم 161، الذي قضى بدفع الرواتب والمستحقّات لدى المصارف بالدولار الأميركي على سعر منصّة “صيرفة”، من أجل لجم ارتفاع سعر الصرف عبر خلق عرض لا يقلّ عن 30 مليون دولار شهرياً (300 ألف موظف تقريباً، بمعدّل راتب 100 $). فشلت ولم تلبِّ أهداف مصرف لبنان. بل على العكس، إذ يبدو أنّ الأمور تنحو إلى المزيد من التفاقم في الأيام المقبلة، ولا يُستبعد أن يتخطّى سعر الصرف سقف التوقّعات التي رسمناها في مقالات سابقة، متجاوزاً شطر الـ30 ألفاً في غضون أسابيع قليلة.

المصارف هي المستفيد الأكبر من هذه اللعبة، لعبة رفع سعر الصرف في السوق السوداء، بواسطة التطبيقات. ومصرف لبنان إما غافل عن الرقابة، أو له من الحبّ جانب

ولِمَ لا؟

فالحكومة معطّلة منذ شهرين، فيما الإجراءات الإصلاحية التي ينتظرها صندوق النقد والمجتمع الدولي مجمّدة بسبب تعطّل الحكومة أيضاً. أمّا “الكباش” السياسي، مع ما يرافقه من تراشق إعلامي بين “حلفاء الأمس”، فعلى أشدّه أيضاً مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية. ناهيك عن صورة لبنان الجديدة التي يصرّ “مرشد الجمهورية” على تقديمها إلى العالم، وهي تُختصر بمشهد “الرهينة المكبّلة”، والممنوعة من فعل أيّ شيء سوى طاعة “حزب الله” والموافقة على أدبيّاته وتأييده في صداقاته وعداواته.

وعليه، وربطاً بهذه الأزمات السياسية والاقتصادية والإدارية المتراكمة، فإنّ السؤال المنطقي يصحّ أن يكون: “لماذا لم يرتفع سعر الدولار أكثر من ذلك إلى الآن؟”، وليس “لماذا وصل إلى 30 ألف ليرة؟”.

لكن بعيداً عن هذا كلّه، وبعيداً عن السياسة ومناكفاتها، لا ضيم من الخوض في التقنيّات، وتحديداً التفاصيل النقديّة من أجل تشريحها ووضع تصوّر حول تراتبيّة الجهات المستفيدة اليوم من ارتفاع سعر الصرف غير المُبرّر نقديّاً، للخروج باستنتاجات تبيّن من يتلاعب بسعر الصرف.

 

مصلحة مصرف لبنان في ارتفاع سعر منصّة “صيرفة”

فلنبدأ بمصرف لبنان الذي يعتبر أنّ مصلحته الرئيسية تكمن في خفض حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، التي تكبر بما معدّله نحو 2 تريليون ليرة كلّ شهر، وذلك بحسب أرقام “المركزي” (56.5 تريليوناً حتى 16 كانون الأول).

آخر محاولة قام بها مصرف لبنان كانت نهاية الشهر الفائت، بواسطة مثلّثه: “منصّة صيرفة”، “التعميم 601″ و”التعميم 161”. استخدم “المركزي” التعميم الأخير من أجل دفع رواتب الموظفين بالدولار الأميركي بدلاً من الليرة، محاولاً أن يعكس الـCycle أو الدورة الخاصّة بمسار تحرّك العملة: فبدل أن يضع الليرات اللبنانية على شكل رواتب في المصارف، ثمّ يحاول امتصاصها لاحقاً بواسطة بيع الدولارات، فعل مصرف لبنان العكس: دفع الرواتب بالدولار، فخلق حافزاً لدى المواطنين (عملاء وموظّفين) لتحويل هذه الدولارات إلى ليرات عند الصرّافين، وبليرات هؤلاء، وليس بليراته هو.

وهذا يعني، في ما يعنيه، أنّ لمصرف لبنان مصلحة مبدئية في استقرار سعر منصّة “صيرفة” (24 ألف ليرة أمس)، بل في اقتراب سعر منصّته من سعر “السوق السوداء” قدر المستطاع، ويميل إلى تفضيل عدم ارتفاع سعر “السوق السوداء” لأنّه سيضطرّ حكماً إلى مجاراته واتّباعه صعوداً، وهذا سيؤدّي إلى اختلاف قيمة راتب الموظف بين شهر وآخر… حتى لو كان المركزي سيدفع دولارات أقلّ للموظفين بموجب سعر منصّته في حال ارتفع، إلّا أنّ الاستقرار يبقى خياره الأفضل.

 

أين مصلحة الصرّافين؟

تقول القاعدة إنّ انخفاض سعر صرف الدولار في “السوق السوداء” يعني أنّ الصرّافين سيدفعون للزبائن مقابل دولاراتهم ليرات أقلّ، ويتعزّز هذا النهج حين يكون العرض أكبر من الطلب. وهذه هي الحال الآن، بسبب دفع رواتب الموظفين بالدولار. فلماذا يصرف الصرّافون دولارات الناس بأوراق لبنانية أكثر؟ (خصوصاً مع بداية كلّ شهر).

تكشف مصادر صيرفية في بيروت لـ”أساس” أنّ العرض على الدولار، منذ ما قبل رأس السنة بأيام، كان أعلى من الطلب، خصوصاً في اليومين الماضيين، ويمثّل ما نسبته 70% مقابل 30% للطلب فقط.

تقول المصادر إنّ ارتفاع سعر الصرف “شكّل مفاجأة” بالنسبة للصرّافين، الذين توقّعوا أن ينخفض نتيجة العرض الزائد، إلّا أنّ ذلك لم يحصل لأنّ تطبيقات الهواتف الذكية “أمسكت خيوط اللعبة منذ صباح اليوم الأول من السنة الجديدة”، وعمدت إلى “رفع سعر الصرف على الرغم من أنّ يوم السبت كان عطلة رسمية وتلاه يوم الأحد”.

وعليه، فإن كانت مصلحة مصرف لبنان تكمن في استقرار سعر منصة “صيرفة”، والصرّافين في خفض سعر الصرف، فمن له مصلحة بما هو عكس ذلك؟ ولماذا؟

الحقيقة التي يبحث عنها كلّ لبناني: من يرفع سعر الصرف ليل السبت وصباح الأحد حين يكون اللبنانيون نائمين

نصل إلى المصارف

المصارف هي صاحبة المصلحة الكبرى برفع سعر صرف الدولار في “السوق السوداء”، وذلك لأسباب عدّة:

أولاً: لأنّها الجهة الوحيدة التي تملك القدرة على العمل في منصّتين: “السوق السوداء” و”صيرفة”، في الوقت نفسه، وذلك بخلاف المواطنين العاديين والصرّافين. لذا فإنّ المصارف قادرة على بيع الدولارات في “السوق السوداء”، وثمّ شراءها من منصّة صيرفة لصالحها أو لصالح عملاء لها (مستوردين أو تجّار) أو لزوم تسديد استحقاقات بموجب التعميمين 158 و161. وعليه، فإنّ هامش ربحها سيكون أكبر كلما كان الفرق بين سعر “صيرفة” وبين سعر “السوق السوداء” أوسع.

ثانياً: لأنّ ارتفاع هذا السعر سيخفّض قيمة اللولار (الدولار المصرفي 8000 ليرة)، إلى نسبة متواضعة جداً مقابل سعر الدولار في السوق السوداء (30 ألفاً). وسيخفّض ذلك أيضاً من قيمة تسعيرة الـ12 ألف ليرة، التي تدفعها المصارف وفقاً للتعميم 158 (400$ فريش و$400 على 12 ألف ليرة).

ثالثاً: من راقب الإجراءات التي تتّخذها المصارف بحقّ الموظفين منذ الكشف عن تفاصيل التعميم 161 نهايات الشهر الفائت، سيكتشف أنّ قسماً كبيراً منها دفع 100 دولار أو في أقصى حدّ 200 دولار من أصل الراتب أو من أصل الاستحقاق، وألزم العميل أو الموظف بسحب بقية المبلغ بالليرة اللبنانية، خصوصاً الكسور، بين 3 أو 7 أو 17 دولار… وقِس على ذلك وصولاً إلى 100، تحت حجّة: “لا يوجد فراطة”. وهذا طبعاً من دون ذكر سقوف السحب بالليرة اللبنانية التي خفّضتها بحسب مصلحتها ومن دون الركون إلى مضمون التعميم، الذي حدّدها بما قيمته 3 آلاف دولار للشهر الواحد على سعر 8 آلاف ليرة.

الخلاصة:

المصارف وحدَها تملك ليرات تستطيع شراء دولارات بها من “المنصّة” لتصرفها وفق سعر السوق. والفارق بين السعرين لحظة كتابة هذه السطور هو 6 آلاف ليرة (24 ألف ليرة سعر “الصيرفة” و30 ألف ليرة سعر السوق السوداء)، أي ما يعادل ربح 600 ألف ليرة في كلّ 100 دولار…

إقرأ أيضاً: ماذا يعني رفع الدولار الرسميّ إلى 3 أو 6 آلاف؟

والمصارف هي المستفيد الأكبر من هذه اللعبة، لعبة رفع سعر الصرف في السوق السوداء، بواسطة التطبيقات. ومصرف لبنان إما غافل عن الرقابة، أو له من الحبّ جانب.

وهذا يقرّبنا من “الحقيقة” التي يبحث عنها كلّ لبناني: من يرفع سعر الصرف ليل السبت وصباح الأحد حين يكون اللبنانيون نائمين.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…