تأخّر جنون الدولار كثيراً في بيروت. أكثر ممّا ينبغي في الحالة المجنونة لعقم الحكم والحكومة. وربّما تشير القفزات الأخيرة المتتالية إلى ساعة النهاية لأرانب رياض سلامة ومناوراته، في ظلّ شلل الحكم والحكومة.
ليس السؤال التقني الصالح للطرح: لماذا قفز الدولار إلى 33 ألف ليرة؟ بل: كيف تأخّر وصول الدولار إلى هذا الحدّ حتّى الآن؟
في عام 2019 الذي انفجرت فيه الأزمة، وصل العجز التجاري إلى 15.5 مليار دولار، أي بمعدّل 1.3 مليار دولار كلّ شهر. لكنّ تحويلات المغتربين كانت وحدها تعوِّض نصف هذا العجز تقريباً، عدا مداخيل السياحة والاستثمارات ومساعدات الأمم المتحدة للّاجئين السوريين وغيرها. وبذلك تبقّى لمصرف لبنان 5.8 مليارات دولار من العجز في ميزان المدفوعات، تكفّل بتغطيتها من احتياطاته لإبقاء سعر الصرف مستقرّاً قدر الإمكان، وهذا ما كان حتى الربع الأخير من السنة.
ناور مصرف لبنان كثيراً في السنتين الماضيتين تحت ضغط السياسيين والملاحقات القضائية في الداخل والخارج
حين انفجرت الأزمة في تشرين الأول 2019 كانت احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية تقارب 31 مليار دولار، لكن مع حمل ثقيل من المطلوبات لمصلحة البنوك يقارب، وفق التقديرات غير الرسمية، 80 مليار دولار. وهذه المطلوبات هي في واقع الأمر ودائع الناس في البنوك. وكان على مصرف لبنان أن يختار بين أن يحافظ على احتياطاته على أمل أن يعالج الفجوة المالية الهائلة في بياناته ويحافظ على أموال المودعين، أو أن يستمرّ بتغطية العجز في ميزان المدفوعات.
تحت الضغط السياسي والشعبي، وضغط الاتّهامات التي تلاحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة شخصيّاً، تدخّل البنك المركزي بثقله لتغطية جزء من عجز ميزان المدفوعات من احتياطاته، من خلال توفير العملة الصعبة لاستيراد المحروقات والأدوية وسلّة موسّعة من السلع الغذائية والاستهلاكية، بالإضافة إلى مختلف المصاريف الحكومية بالعملات الأجنبية، ومن ضمنها رواتب السلك الدبلوماسي. بالطبع، لم يكن ذلك التدخّل كافياً لتثبيت سعر الليرة، لكنّه ساعد في تخفيف وتيرة انهيارها.
تهريب الأموال إلى الخارج
غير أنّ مصرف لبنان موّل شيئاً آخر، هو تهريب الأموال إلى الخارج، من خلال السلطة الاستنسابية المعطاة لإدارات البنوك في غياب قانون “الكابيتال كونترول”. والأرقام واضحة لا تكذب. ففي عام 2020، انخفض عجز الميزان التجاري إلى النصف ليقف عند أقلّ من 7.8 مليارات دولار، بسبب التقشّف الحادّ لدى مختلف الفئات التي انزاحت إلى الفقر والفقر المدقع. كانت تحويلات المغتربين كافية لتعويض 80% من هذا العجز، وكان بالإمكان تغطية ما تبقّى من المساعدات الدولية. لكنّ الصادم أنّ عجز ميزان المدفوعات قفز إلى 10.55 مليارات دولار، ليتفوّق على العجز التجاري بنحو 3 مليارات دولار، وتلك سابقة لم تحدث حتّى في أيام الحرب، ولا تفسير لها إلا تهريب الأموال تحت نظر البنك المركزي والسلطة بكلّ مكوّناتها.
في المحصّلة، تبدّد نحو 19 مليار دولار من الاحتياطات النقدية لدى مصرف لبنان بالعملة الأجنبية خلال 27 شهراً، أي بمعدّل 720 مليون دولار كلّ شهر. ولم يتبقّ سوى 12.5 مليار دولار، وفق آخر تصريح للحاكم. وهذا الرقم يعادل التوظيفات الإلزامية للبنوك لدى مصرف لبنان لا أكثر. لم يعد لدى مصرف لبنان 720 مليون دولار يبدّدها كلّ شهر ليبقي على وتيرة ارتفاع الدولار وفق النمط الذي كان سائداً في 2020 و2021.
مصرف لبنان موّل شيئاً آخر، هو تهريب الأموال إلى الخارج، من خلال السلطة الاستنسابية المعطاة لإدارات البنوك في غياب قانون “الكابيتال كونترول”
في الوقت الراهن، تراجعت الحاجات التمويلية لميزان المدفوعات بشكل كبير مقارنة بعام 2020. فتهريب الأموال تراجع كثيراً، لأنّ النافذين في السلطة والبنوك ضربوا ضربتهم وانتهى الأمر، ولأنّ القدرة الشرائية للمواطن تراجعت إلى حدود الفقر المدقع. ومع ذلك فإنّ الاقتصاد ما زال في حاجة إلى ما يقارب 300 مليون دولار شهرياً لتمويل عجز ميزان المدفوعات. وما لم يتوافر هذا الرقم فإنّه سينعكس بشكل مباشر على سعر الدولار في السوق الموازية. وهذا ما يحدث بالفعل، ويجعل قفزات الدولار سريعة التواتر.
نفدت أوراق الجميع
ناور مصرف لبنان كثيراً في السنتين الماضيتين تحت ضغط السياسيين والملاحقات القضائية في الداخل والخارج، فكان بعد كلّ اجتماع يُستدعى إليه في بعبدا، يستأنف استخدام الاحتياطات حتّى آخر دولار. ثمّ خفض الاحتياط الإلزامي، ولعب لعبة التعاميم، وآخرها 161، لتخفيف الضغط عن السوق الموازية. كان كلّ ذلك بديلاً عن العجز الحكومي عن اتخاذ الخطوة الوحيدة الممكنة للخروج من هذه الدوّامة، وهي الحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي.
اللعبة في منتهاها الآن بعدما نفدت الأوراق من الجميع. بل إنّ جنون الدولار الراهن تأخّر سنة على الأقلّ. فموعده الطبيعي كان حين انخفضت احتياطات مصرف لبنان دون حاجز الـ 18 مليار دولار، ولامست الخطّ الأحمر. تأخّر جنون الدولار الكبير لأنّ مصرف لبنان جرؤ على انتهاك الخطّ الأحمر تحت ضغط السلطة، فضاعت الاحتياطات ولم ينفذ لبنان من الأزمة.
كانت السلطة عاجزة عن أيّ شيء سوى الضغط على رياض سلامة المُثخن بالملاحقات القضائية محليّاً وخارجياً. لم يكن سلامة ضابطاً صالحاً لإدارة المعركة حينها، وهو ليس لها الآن بالتأكيد، لأنّ الملاحقات والاتّهامات تنال من استقلالية قراره وتجعله رهناً للضغط السياسي. وليست السلطة بتركيبتها الراهنة وحكومتها الكسيحة صالحة لأخذ المبادرة. فلا اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع تجدي، ولا الهواية الأثيرة لرئيس الجمهورية بالدعوة إلى “الاجتماعات المالية والاقتصادية” تنفع.
ثمّة خياران لا ثالث لهما لتمويل عجز ميزان المدفوعات وتجنُّب الانهيار الكامل للّيرة: إمّا الحصول على تمويل خارجي (يبدأ بصندوق النقد الدولي)، وإمّا انتهاك ما تبقّى من احتياطات مصرف لبنان.
الخيار الأوّل يتطلّب فتح الأبواب الخارجية المغلقة، ودون ذلك عقبات كثيرة، أولاها إقرار الموازنة التي تحتاج إلى قرارات كبيرة من حكومة مشلولة، ويحتاج الأمر إلى شيء من الإعجاز لتحقيق اختراق في المفاوضات المرتقبة مع بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان.
في هذا الفراغ قد لا يكون أمام السلطة، والعهد في سنته الأخيرة وفي موسم الانتخابات، سوى تكرار الخطيئة وتجاوز خطّ أحمر آخر، وتبديد المليارات المتبقّية لدى مصرف لبنان. هذا مع علم الجميع أنّ هذه المليارات هي الخميرة الباقية لإعادة هيكلة ديون الدولة، والقطاع المصرفي، ومصرف لبنان. وهذا قبل الحديث عن جبل المطلوبات المستحقّة للمودعين، الذي يفوق مئة مليار دولار.
قضت السلطة على الحاضر، ولربّما تقضي على المستقبل، لشراء بضعة أشهر في موسم الانتخابات.
إقرأ أيضاً: جنون الدولار: سلامة يوزّع الخسائر “بالسرّ”
أتفه ما في هذه السلطة القرار الذي اتخذته أمس القاضية غادة عون، بمنع سفر رياض سلامة برا وبحرا وجوا، يادّعاء الحفاظ على الأدلّة، بعد أن عجزت عن منع سفر الأرصدة المحظية، التي حولتها المصارف إلى الخارج.