نشر موقع “أساس ميديا” عرضاً لأبرز ما جاء في كتاب الأمير تركي الفيصل “الملف الأفغاني”، وقد امتدّ ذلك العرض المميّز لسبع حلقات، كانت جميعها شائقة وصافية.
تأتي أهمية هذا الكتاب من أهمية موضوعه وأهمية مؤلّفه، فالموضوع يختصّ بأهمّ صراع عالمي، من حيث جوانبه وآثاره، منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. والمؤلّف هو رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق في زمن الأحداث الكبرى، والتقلّبات الحادّة في النظام الدولي، ثمّ إنّه سفير المملكة في لندن وواشنطن من بعد رئاسة الجهاز، وهذا ما يعطي الأمير ثراءً سياسياً ومعرفيّاً واسعاً.
يكشف كتاب الأمير عن فصول من ذلك الصراع المعقّد، والممتدّ، الذي بدأ ليلة الكريسماس في كانون الأوّل عام 1979، حين قام الاتحاد السوفيتي بغزو أفغانستان. وحسب كتاب الأمير، فإنّ موسكو اعتقدت أنّ ذلك التوقيت قد يكون مناسباً، نظراً لانشغال الغرب بالاحتفالات، وانشغال العالم بقدوم عام جديد.
تأتي أهمية هذا الكتاب من أهمية موضوعه وأهمية مؤلّفه، فالموضوع يختصّ بأهمّ صراع عالمي، من حيث جوانبه وآثاره، منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم
لكنّ ذلك التقدير لم يكن دقيقاً، فما بعد الكريسماس لم يكن كما قبله، وكانت تلك نقطة البداية في طريق استغرق عقداً من الزمان، حتى كان الانهيار المروّع للاتحاد السوفيتي، ثاني أكبر إمبراطوريّات العالم المعاصر.
في هذه القراءة لكتاب “الملف الأفغاني” أتوقّف عند بعض المحطّات التي عرضها الأمير تركي الفيصل في كتابه المهمّ.
الطريق إلى المحيط الهندي
كان جوهر الصراع بين بريطانيا وروسيا في تلك المنطقة الحيويّة من العالم يتمثّل في محاولة روسيا الوصول إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي، وجهود بريطانيا لمنع روسيا من الوصول.
بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان، أصبحت موسكو على بعد إقليم باكستاني واحد من المحيط، ذلك أنّ إقليم بلوشستان الباكستاني المتاخم لأفغانستان يطلّ على المحيط الهندي.
أدرك الرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق ذلك التطوّر الخطير، فكان التحالف القوي بين الاستخبارات الباكستانية والأميركية والسعودية، لأجل إغراق ثمّ إخراج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان.
أدركت باكستان أنّها على بُعد قرار واحد من الغزو السوفيتي، وأدركت السعودية أنّ الإسلام في تلك المنطقة مهدّد بالخطر، وأنّ لاهور التي تبعد ثلاث ساعات عن الرياض، لم تعد بمأمن من موسكو.
حرب تشارلي ويلسون
يذكر الأمير تركي الفيصل أنّ الاستخبارات الباكستانية، المتحالفة مع الاستخبارات الأميركية، كانت تمنع الأميركيين من دخول أفغانستان، أو تدريب “المجاهدين”، خشية تصاعد الأمر بين موسكو وواشنطن. لكنّ الاستثناء في ذلك كان عضو مجلس النواب تشارلز ويلسون.
ربّما نتوقّف عند هذه النقطة في مقالٍ لاحق، ذلك أنّ النائب الأميركي، الذي قام بدور مهمّ في دعم المجاهدين، سرعان ما اعتبر نفسه الشخص الأكثر أهميّة في ما جرى. وبعد قليل صدر كتاب بعنوان “حرب تشارلي ويلسون”، وأنتجت استديوهات هوليوود فيلماً حاز جائزة أوسكار بالعنوان نفسه، وهو الفيلم الذي أساء إلى وزير الدفاع المصري القوي المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة.
لم تكن هذه “حرب تشارلي ويلسون”، ولم يكن المشير أبو غزالة أداة في أيدي ويلسون في ترتيبات مواجهة السوفييت في أفغانستان، بل كانت هذه رؤية مصر في تلك الأثناء كما كانت رؤية السعودية. وكانت مواجهة الوجود السوفيتي في أفغانستان هي قناعات السادات وأبو غزالة بقدر ما هي قناعات رونالد ريغان ومحمد ضياء الحق. وربّما يأتي الوقت لرواية قصة المشير وأفغانستان في سياقٍ لاحق.
دار الضيافة ودار الأنصار
في منطقة “بيشاور” الباكستانية، حيث كان يُدار جانب كبير من الحرب ضدّ السوفييت، أُسِّست داران للعرب الأفغان، دار الضيافة لمؤسّسها عبد الله عزام، ودار الأنصار لمؤسّسها أسامة بن لادن.
في عام 1983 أسّس الإخواني الفلسطيني عبد الله عزام ما سُمّي “مكتب الخدمات”، وكان يرسل الحافلات إلى مطار إسلام آباد في العاصمة الباكستانية لاستقبال المتطوّعين العرب، ويستضيفهم بعض الوقت في مكتب الخدمات، ثمّ يجري توزيعهم لاحقاً.
تلقّى عزام دعماً أميركياً، وأسّس مكتباً له في آريزونا، وأصدر هناك مجلة “الجهاد”، لكنّه اصطدم بطموحات أيمن الظواهري وحلفائه الأفغان، فكانت نهايته.
يكشف كتاب الأمير عن فصول من ذلك الصراع المعقّد، والممتدّ، الذي بدأ ليلة الكريسماس في كانون الأوّل عام 1979، حين قام الاتحاد السوفيتي بغزو أفغانستان
ثمّة جدل بشأن اغتيال عزام، وهو في طريقه إلى “مسجد سبع الليل” لإلقاء خطبة الجمعة، لكنّ الأمير تركي الفيصل يرى أنّ قلب الدين حكمتيار رئيس ما يُسمّى بـ”الحزب الإسلامي” ذي الخلفيّة الإخوانية، كان وراء ذلك.
بعد دار الضيافة التي سُمّيت “مكتب الخدمات” أسّس بن لادن “دار الأنصار”، وأسّس أيضاً قوة خاصة من عشرات المقاتلين في “خوست”، وراح ينظّم دعاية كبيرة لمقاتليه، وهنا تبدأ قصة “مجاهدي أسامة بن لادن”.
كان أيمن الظواهري الذي يكبُر بن لادن قليلاً قد سيطر على أفكاره وآرائه، وأصبح المرشد الخاصّ له، وأصبح فكر سيّد قطب، الذي هو فكر أيمن الظواهري، فكر أسامة بن لادن، منذ ذلك الحين.
أسامة بن لادن لم يكمل كليّة الهندسة
السائد أنّ أسامة بن لادن قد درس الهندسة في جامعة الملك عبد العزيز، لكنّ الأمير تركي الفيصل يقول في كتابه إنّ بن لادن قد ترك الدراسة في كليّة الهندسة قبل إكمالها، وذهب إلى أفغانستان. وهكذا لم يحصل زعيم تنظيم القاعدة على بكالوريوس الهندسة كما هو شائع.
ريغان يهزم غورباتشوف
في عام 1985 وصل غورباتشوف إلى السلطة، وقرّر الاستعداد لوقف الحرب، والانسحاب من أفغانستان. وعلى أثر ذلك تمّ تصعيد قائد الشرطة السريّة محمد نجيب الله لرئاسة أفغانستان. وفي موسكو تمّ إبلاغ نجيب الله قرار الانسحاب السوفيتي.
في عام 1986 كان الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف يمهّد للانسحاب، فيما كان الرئيس الأميركي رونالد ريغان يقرّر إمداد “المجاهدين” بصواريخ “ستينغر”، وهي صواريخ مضادّة للطائرات، يمكن للأفراد حملها، وكانت ذات تكنولوجيا سرّيّة، ولم يسبق استخدامها في أيّ حرب.
ساعدت نوايا غورباتشوف وصواريخ ريغان في إنهاء الحرب، والخروج السوفياتي من أفغانستان بعد عشرة أعوام غير ناجحة من الغزو.
معذرة.. الرئيس غير موجود
في عام 1989 خرج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان، وفي عام 1990 قام نظام صدام حسين بغزو دولة الكويت. وهنا يروي الأمير تركي الفيصل واقعتين مهمّتين.
تتعلّق الواقعة الأولى بحجم الغرور والصلف اللذين أصابا صدام حسين عند الغزو. وتتعلّق الثانية بطلب أسامة بن لادن من السلطات السعودية السماح له بتحرير الكويت بواسطة “مجاهديه” الخاصّين!
يروي الأمير تركي الفيصل أنّ الملك فهد اتّصل بصدّام حسين عقب الغزو، وكان الردّ الذي جاء من بغداد “معذرة.. الرئيس غير موجود”. ولمّا عاد صدام واتّصل بالملك في نهاية اليوم، فوجئ الملك بأنّ صدام يرى أنّ الكويت كانت جزءاً من العراق، وأنّها عادت إليه!
قبل الغزو العراقي للكويت، وبعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان، كان أسامة بن لادن قد ذهب إلى الأمير تركي الفيصل وعرض عليه “تحرير اليمن الجنوبي” من الاتحاد السوفيتي، وإلحاق “الهزيمة الثانية” بالسوفييت في عدن بعد كابول.
وبعد الغزو طلب أسامة بن لادن أن يقوم هو و”مجاهدوه” المقيمون على الحدود الأفغانية الباكستانية بإخراج العراقيين، كما سبق له أن أخرج السوفييت.
ولمّا لم يستجِب أحد لحماقات بن لادن، راح يشرع في الهجوم على السعودية من السودان وأفغانستان.
والدة أسامة بن لادن في الخرطوم
طلبت السعودية من السودان وقف هجوم أسامة بن لادن على السعودية، ثمّ ذهب أفراد من عائلته لإقناعه، وكانت والدته في مُقدَّم مَن ذهبوا، إضافة إلى عمّه وأختيْن له.
كان بن لادن قد اشترى منزلاً كبيراً، ومزرعة، واشترى أيضاً مصنعاً لدباغة الجلود. ولقّبه نظام عمر البشير بـ”المجاهد الكبير”.
في تلك الأثناء نقل أسامة بن لادن نحو 50 مليون دولار من حساباته في السعودية، حسب تقدير الفيصل، وذلك قبل مصادرة أمواله، وإسقاط جنسيّته، ومغادرته إلى أفغانستان.
الطريق إلى نيويورك
فاوض عمر البشير كلّاً من الرياض وواشنطن على تسليم أسامة بن لادن، وبعدما فشلت المفاوضات غادر بن لادن إلى أفغانستان.
كانت أفغانستان قد شهدت انهياراً أمنيّاً في أعقاب الانسحاب السوفيتي، وهو الانهيار الذي انتهى إلى تأسيس حركة طالبان. رفض الملّا عمر طلب الأمير تركي الفيصل، الذي زاره مع رئيس الاستخبارات الباكستانية في أفغانستان، تسليم أسامة بن لادن. وبعد قليل وقعت أحداث مركز التجارة العالمي وتفجيرات “أيلول المأساوية”، وتغيّر مسار العالم.
إنّ كتاب الأمير تركي الفيصل الجديد “الملفّ الأفغاني” هو مصدر مهمّ جدّاً في فهم أحداث العالم، في مكان خطير وزمان خطير. وهو أوّل كتاب لمسؤول عربي رفيع المستوى يتعلّق بالمعضلة الأفغانية، وتطوّر خريطة الإسلام السياسي في سنوات الحرب الباردة، وما بعدها.
إقرأ أيضاً: “الملفّ الأفغانيّ” (1): شهادة الأمير تُركي الفيصل عن ليلة الغزو السّوفياتيّ
إنّني أنصح بقراءة ذلك الكتاب، الذي سيشكّل مصدراً مهمّاً للساسة والباحثين والمؤرّخين، الذين يهدفون إلى معرفة ما جرى، وما يمكن أن يعود.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.