يعيش الداخل التركي منذ سنوات أزمة ثقة بين جناحيْ الحكم والمعارضة. أسباب هذه الأزمة كثيرة ومتشعّبة أيضاً. الأخطاء المرتكبة في القرارات الاقتصادية والمالية والسياسية ذات الطابع المحلّي والإقليمي، كما تُردّد قوى المعارضة، يقابلها تمسّك حزب العدالة الحاكم بصوابيّة ما يقول ويفعل في خططه وبرامجه الداخلية، متّهماً المعارضة بالمبالغة وتضخيم الأمور وتجاهل ما حقّقه الحزب لتركيا في الأعوام الأخيرة. يفضّل الحزب الحاكم دائماً العودة إلى الأرشيف، ويتمسّك بما أنجزه من مشاريع، لكنّ المعارضة تقول إنّ الأمور تغيّرت وعليه أن يقبل مسؤوليّته عن إيصال الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم اقتصادياً ومعيشياً وسياسياً، ويدفع ثمن العقد الثاني من حكمه بسبب القرارات التي اتّخذها والسياسات التي اعتمدها.
حدثت تحوّلات حزبية وسياسية جذرية في تركيا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، شئنا أم أبينا، وهي مرتبطة مباشرة بسيناريوهات تغيير شكل النظام من البرلماني إلى الرئاسي
الفترة الزمنية التي تفصلنا عن موعد انتخابات حزيران 2023، هذا إذا لم تحدث مفاجأة الانتخابات المبكرة، لا تشجّع كثيراً على القول إنّ الأمور ستتغيّر بالنسبة للحكم والمعارضة. لذلك سيكون القرار النهائي للناخب التركي الذي سيتدخّل لحسم المسألة. تحذيرات الحزب الحاكم من إعادة البلاد إلى أجواء الائتلافات الحكومية التي أشعلت أكثر من أزمة سياسية واقتصادية تقابلها مؤشّرات وأرقام ومعطيات العام 2021 التي ستكون حاضرة لمساعدة الناخب على استشفاف أجواء عام 2022، كما تقول قيادات المعارضة. نسبة تضخّم بحدود 21 في المئة وعدت الحكومة بخفضها في العام 2021، فارتفعت دفعة واحدة 15 نقطة لتتجاوز رقم 36 في المئة وتفجّر نقاشات سياسية اقتصادية واجتماعية جديدة في الداخل التركي. قيادات العدالة تستعرض يوميّاً إنجازات عقدين من الزمن في أكثر من مجال، وتذكّر المواطن بوضعية ما قبل العام 2002. لكنّ المعارضة تتوقّف مطوّلاً عند نسب تضخم اقتصادي وماليّ، كان بين أسبابها ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية من موادّ غذائية بنسبة 40 في المئة، وكهرباء بنسبة 50 في المئة، وتكاليف نقل بنسبة 54 في المئة، وتراجع كبير في سعر صرف الليرة التركية التي فقدت 45 في المئة من قيمتها مقابل الدولار خلال سنة، وخطة مالية يعلن عنها الرئيس إردوغان قبل أسابيع أدّت إلى بيع كميات كبيرة من احتياط البنك المركزي والمصارف الحكومية بالدولار وفتحت الطريق أمام تشجيع المواطن على تحويل مدّخراته إلى الليرة التركية، إلا أنّها لم تخرج العملة من دائرة الخطر في مواجهة الورقة الخضراء اللون.
مشكلة حزب العدالة أيضاً هي وجود من يدعم أحزاب المعارضة من خارج تركيا هذه المرّة، وإنّ الامتحان الحقيقي الذي ينتظر الحزب الحاكم في الأشهر المقبلة لم يدخل حيّز النقاش بعد. الاتحاد الأوروبي والعديد من العواصم الغربية مثلاً لا تتحدّث فقط عن الإصلاحات الاقتصادية الواجب اعتمادها، بل عن ضرورة مراجعة السياسات والالتزام بالاتفاقيات الموقّعة مع أوروبا على طريق العضويّة التركية لتجاوز حقبة تجميد التفاوض التي تبعد تركيا عن بروكسل أكثر فأكثر. هذا إلى جانب المواثيق التي تبنّتها تركيا في أواخر الأربعينيّات ومطلع الخمسينيّات في منظومة المجلس الأوروبي في مسائل الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان، والتي هي أمام امتحان ملفّات جديدة قد تفجّر العلاقات في أيّة لحظة.
يقول الحزب الحاكم إنّه رفع مستوى الحدّ الأدنى للأجور إلى 50 في المئة، وأدخل أرقاماً قياسية على رواتب وأجور الموظفين والمتقاعدين لمساعدتهم على مواجهة الأزمات، وإنّه سيزيل رغوة التضخّم تماماً كما فعل مع رغوة الدولار، وإنّ الأزمة ظرفيّة مؤقّتة مرتبطة بأكثر من عامل دولي يتقدّمها وباء كورونا وارتداداته الاقتصادية والاجتماعية. لكنّ اللافت وسط هذا النقاش هو الكثير من التقارير الدولية التي تتحدّث عن معالم خطوط زلازل ذات طابع اقتصادي ومعيشي في تركيا ظهرت إلى العلن في الأشهر الأخيرة قد تتحوّل إلى أزمة أكبر إذا لم يؤخذ بها ويتمّ التعامل معها بشكل جدّي. وقد بدأ حزب العدالة والتنمية يراجع منظومة علاقاته مع الخارج بعد تباعد واصطفاف إقليمي واسع في مواجهة سياسات تركيا الخارجية، لكنّ نقطة البداية الحقيقية ينبغي أن تكون من الداخل من خلال تحرّك سياسي اقتصادي اجتماعي جديد، وهو ما لم يتمّ حتى الآن.
المواجهة في الداخل التركي هي بين رؤيتين: الأولى تتوقّف عند أرقام التجارة الخارجية والصادرات القياسية في العام المنصرم، والثانية تقول إنّ أرقاماً أخرى تتعلّق بالتضخّم والبطالة والغلاء والضرائب المعلنة لا يمكن تجاوزها. يتحدّث الحكم عن نقل تركيا إلى الدول العشر الأولى اقتصادياً في العالم، وأحزاب المعارضة تقول إنّ المواطن يريد برامج وخططاً سريعة وعاجلة وقصيرة المدى تخرجه من أزماته الاقتصادية والمعيشية. يذكِّر الحزب الحاكم بإنجازاته الاقتصادية والتنموية وأرقام الصادرات والمشاريع العملاقة التي نفّذها، وقيادات المعارضة تتحدّث عن الثمن الواجب دفعه في حالة مشابهة للأزمة الاقتصادية الفادحة التي شهدتها البلاد في العام 2002، والتي فتحت الطريق أمام تفرّد حزب العدالة بالحكم لعقدين كاملين. فكيف سيكون شكل المسار الجديد؟
حدثت تحوّلات حزبية وسياسية جذرية في تركيا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، شئنا أم أبينا، وهي مرتبطة مباشرة بسيناريوهات تغيير شكل النظام من البرلماني إلى الرئاسي. لعب حزب العدالة والتنمية باحتراف أوراقاً داخلية وخارجية، من بينها الاقتصاد والسياسات الإقليمية وضعف وتفكّك المعارضة، فبقي طوال عقدين كاملين في السلطة. مشكلته الآن هي فقدان الكثير من الفرص التي كانت توفّرها له هذه الملفّات.
تقول تقديرات كثيرة في الداخل التركي إنّ الاقتصاد هو مَن حمل العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002. الاقتصاد هو أيضاً اللاعب الأوّل الذي قد يزيح حزب العدالة عن مقعد السلطة إذا لم يستغلّ الفترة الزمنية المتبقّية قبل التوجّه إلى الصناديق.
نظرة خاطفة على الشعارات والأهداف المرفوعة من قبل حزب العدالة والتنمية الحاكم في عام 2020 تساعدنا على إجراء مقارنة بين الأهداف التي كانت قبل عامين ووضعيّة اليوم في الداخل التركي. من خطط حماية الاقتصاد الوطني، وتوفير الثقة العالمية به، والحفاظ على استقرار الأسعار، وحماية العملة الوطنية في الداخل والخارج، وتحويل تركيا إلى قاعدة جذب للمستثمرين والمشاريع الإنمائية الاستراتيجية، وطرح برامج إصلاح سياسي واجتماعي وقانوني داخلي، والتدخّلات المستمرّة من قبل البنك المركزي التركي في سوق الصرف لوقف انهيار العملة، وأرقام المديونيّة وتراجع الاحتياط النقدي بنسب كبيرة، والنقاش الداخلي السياسي المطوّل حول أين وكيف صرف البنك المركزي 128 مليار دولار في الأشهر الأخيرة.
ودّعت تركيا النظام البرلماني بعد استفتاء تموز 2018 وانتقلت إلى النظام الرئاسي، ويومئذٍ كان الحديث يدور عن فوائد وإيجابيات هذا النظام في سرعة التعامل مع المسائل واتخاذ القرارات اللازمة بعيداً عن عرقلة العمل البيروقراطي وتضارب صلاحيات ونفوذ الوزارات. بعد مرور أكثر من 3 أعوام يتوقّف الكثير من خبراء السياسة والاقتصاد في الداخل والخارج عند المشاكل والعقبات التي حملها معه النظام الجديد. كيف ولماذا يتمّ تغيير وزراء المال والاقتصاد ورؤساء المصرف المركزي التركي بهذا الشكل والعدد خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة؟
إقرأ أيضاً: تركيا: دبلوماسية تقاسم المصالح
هدف المصرف المركزي التركي للعام 2022 هو خفض رقم التضخّم من 36 في المئة إلى 5 في المئة. يتطلّب الوصول إلى هذا الإنجاز قلب المسار والخطط الاقتصادية والمالية في تركيا رأساً على عقب. تقول قيادات العدالة والتنمية لقواعدها وكوادرها “استيقظوا من سباتكم، نحن هنا وسنبقى لحقبة أخرى”. هل يكفيها ذلك من دون تسجيل اختراقات حقيقية تعالج المشاكل الاقتصادية والمالية والاجتماعية القائمة وإرضاء المواطن؟