اللقاء النادر، الذي جمع الرئيس الفلسطيني محمود باس (أبو مازن) مع وزير الحرب الإسرائيلا بيني غانتس، في منزل الأخير في تل أبيب، هو قبل كل شيء حدث تكتيكيّ مكوّن من معادلة بسيطة جدّاً: “تعزيز السلطة الفلسطينية سيجلب هدوءاً خلف الخطّ الأخضر وفي الضفة الغربية”. خصوصاً أنّ الضفّة تغلي على نار هادئة، بعد الإجراءات العدائية التي انطلقت من عقالها خلال الأشهر الأخيرة بالهجوم على الوجود الفلسطيني الرسمي والشعبي في القدس، وهجوم المستوطنين وفتيان التلال على البيوت والبيّارات الفلسطينية في الضفة. وهذا ما أكّده الوزير حسين الشيخ بقوله إنّ لقاء عباس – غانتس كان الفرصة الأخيرة قبل الانفجار والدخول في الطريق المسدود.
اللقاء هو الأوّل من نوعه على هذا المستوى منذ 11 عاماً، بعدما وصلت العلاقة بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية إلى أدنى مستوى في عهد الرئيس الإسرائيلي نتانياهو
من الصعب محاولة جني ربح سياسي من هذا اللقاء السياسي – الأمنيّ في غياب مسيرة سياسية حقيقية. وهو لم ينجم عنه أيّ اختراق في العملية السياسية، ولم يتجاوز سقف “تحقيق تسهيلات اقتصادية ومدنية”. خصوصاً أنّ التركيبة اليمينية المتطرّفة للحكومة والبرلمان في إسرائيل لا تمنح أيّ أمل بإمكانية استئناف عملية السلام. ويعي الرئيس الفلسطيني ذلك، ولهذا السبب طالب خلال لقائه غانتس، في غياب أيّ خطوات عملية أو إشارات من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بتحريك الملف الفلسطيني سياسياً، أو الضغط على إسرائيل للتقدّم في المسار السياسي. وتحدّث عن ضروة وجود أفق سياسي. لكنّ تركيزه كان أكثر على مطالب يمكن تحصيلها من الجانب الإسرائيلي، مثل تطوير البروتوكولات الاقتصادية والماليّة والأمنية، بما ينسجم مع المتغيّرات التي شهدتها المنطقة أخيراً، ووقف الاقتحامات العسكرية الإسرائيلية في مناطق “أ” التي تحرج وتضعف السلطة الفلسطينية، ونقل مناطق مصنّفة “ب”، حيث لا تمتلك السلطة صلاحيّات أمنية، بل مدنية فقط، إلى مناطق “أ”.
غير أنّ اللقاء مهمّ، فهو الأوّل من نوعه على هذا المستوى منذ 11 عاماً، بعدما وصلت العلاقة بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية إلى أدنى مستوى في عهد الرئيس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي أدار ظهره للفلسطينيين، ودحر السلام معهم إلى أسفل سلّم الأولويّات، وبالغ في إهانة الرئيس أبو مازن الذي اختار الجهاد الدبلوماسي، ورفض إجراء أيّ لقاء معه بهدف إحياء عملية السلام بحجّة أنّه لا يمثّل كلّ الفلسطينيين.
وفي الوقت نفسه، أبدى نتانياهو حرصه على أن يقيم علاقات غير رسمية مع حماس (جولات قتال، وسطاء، تهدئة، تسهيلات). كان هدف نتانياهو واضحاً: إزالة النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني عن جدول الأعمال الدولي، وإلقاء حلّ الدولتين في سلّة قمامة التاريخ، وتشجيع انقسام القيادة الفلسطينية بحيث لا يُتاح تحديد أيّ زعيم ممثّلاً للشعب الفلسطيني كلّه.
هكذا يمكن فهم الهجوم العنيف الذي شنّه نتانياهو على اللقاء، معتبراً أنّ حكومة نفتالي بينيت تعرِّض أمن إسرائيل للخطر، وأصدر الليكود بياناً قال فيه إنّ “حكومة بينيت تعيد أبو مازن والفلسطينيين إلى جدول الأعمال”. وجاء في بيان لحزب الصهيونية الدينية أنّه “بعد عشر سنوات، نجح اليمين خلالها في تحويل أبو مازن إلى غير ذي صلة بالواقع، وشخصية غير مرغوب بها في العالم، وفي إزالة خطاب تقسيم البلاد عن الأجندة، يعيد بنيت ويساره (اتفاق) أوسلو إلى الطاولة، وأبو مازن إلى مركز الحلبة”.
صواريخ غزّة حاضرة
أمّا على الجانب الفلسطيني، فربّما كان الصاروخان اللذان أُطلقا من غزة وسقطا على سواحل تل أبيب، ردّة فعل رافضة للّقاء. خصوصاً أنّ حركة “حماس” كانت قد وصفت اللقاء بأنّه “طعنة في ظهر الانتفاضة الوليدة في الضفة الغربية”. وأدانت “حركة الجهاد الإسلامي”، حليفة طهران، هذا اللقاء، وأكّدت أنّه يكرّس الدور الوظيفي للسلطة التي تبحث عن حلول للخروج من أزماتها على حساب مصالح الشعب. ويمكن فهم موقف “الجهاد” على اعتبار أنّ أحد أهداف اللقاء إسرائيليّاً هو تحييد الضفة للتفرّغ للملفّ النووي الإيراني، ما يعارض أجندة “حركة الجهاد الإسلامي”، التي تسعى إلى زجّ الضفة والقطاع في حرب تخفّف الضغط عن إيران.
الموقف الأميركي محبِط جدّاً للقيادة الفلسطينية. فإدارة بايدن لا تريد أن تنفق من الوقت أو رأس المال السياسي على الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني
وكان مثيراً للاهتمام أنّ أبو مازن التقى غانتس وليس مع رئيس الوزراء نفتالي بينيت، أو وزير الخارجية يائير لابيد. فبينيت يرفض الحديث مع السلطة الفلسطينية وأبو مازن، ويصفه بأنّه “يشجّع الإرهاب في الضفة”. فيما يبدو أنّ لابيد حريص على عدم فرط عقد الائتلاف مع بينيت وغانتس، وذلك أملاً بتداول السلطة مع بينيت في النصف الثاني من عمر الحكومة الإسرائيلية، كما جرى الاتفاق عليه. أمّا غانتس، كما يُقال، فهو رجل واشنطن في الحكومة الإسرائيلية، وهو معنيّ بالظهور بأنّه الرجل القوي في إسرائيل، القادر على التحرّك في اتجاهات معيّنة.
سلام اقتصادي؟
على كلّ حال، يمكن وضع اللقاء في خانة السلام الاقتصادي، واستراتيجية تقليص الصراع، التي وضعتها إسرائيل. فبعد اللقاء بساعات، وافق غانتس على جملة تسهيلات شملت لمّ شمل ستّة آلاف مواطن من الضفة الغربية، إضافة إلى ثلاثة آلاف وخمسمئة مواطن من قطاع غزة، وإصدار ستمئة تصريح عمل لرجال الأعمال الفلسطينيين، والأهمّ من كلّ هذا تقديم مدفوعات ضريبية بقيمة مئة مليون شيكل. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هناك حديث عن جملة إجراءات اقتصادية تشمل خفض الرسوم المفروضة على الوقود، وتخفيف الإجراءات البيروقراطية الإسرائيلية في المعابر الحدودية مع الأردن وفي نقل النقود عبر البنوك، وإنشاء منصّة رقمية لضريبة القيمة المضافة، وإنشاء منصّة دفع على الإنترنت للعمّال الفلسطينيين، وغيرها من الإجراءات قيد التنفيذ التي ستدرّ مئات الملايين من الشيكلات على ميزانية السلطة كلّ عام.
ربّما لأجل هذا توقّع بعض المراقبين أن يتم تجاوز الأزمة الماليّة للسلطة التي اضطرّتها إلى دفع جزء من رواتب موظّفيها في الشهر الماضي.
وهذا يعني أنّ أزمة السلطة الماليّة ما هي إلا أمر إسرائيلي مفتعل لإجبار السلطة على قبول ما لا تقبله من مواقف سياسية، أو على الأقلّ من أجل ليّ ذراعها وتقليل قدرتها على الكفاح السياسي.
في الخلاصة، الموقف الأميركي محبِط جدّاً للقيادة الفلسطينية. فإدارة بايدن لا تريد أن تنفق من الوقت أو رأس المال السياسي على الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. بل تعتبر أنّه أهدر جهود إدارات أميركية سابقة، فهو ملفّ شائك ومعقّد تختلط فيه الأيديولوجيا مع التاريخ والجغرافيا، والصراع الديني مع الصراع القومي والعرقي. أمّا إسرائيل فباتت يمينية حكومةً وشعباً. والقيادة الفلسطينية مع إدراكها لكلّ ذلك، وعلى الرغم من معارضتها لنظرية “السلام الاقتصادي” على حساب عملية السلام، قد تنجرف نحو السلام الاقتصادي، بقوّة الدفع الأميركي والعربي والدولي، وبفعل ضروريّات حماية الاقتصاد الفلسطيني والسلطة الفلسطينية من الانهيار، وفي ظلّ معادلة الصراع الداخلي بين حركتيْ فتح وحماس، وتحفّز حركة حماس لتكون بديلاً عن السلطة.
إقرأ أيضاً: تل أبيب: فشل سياسة جزّ العشب في الضفّة الغربيّة!
ومن المعروف أنّ تحويل القضية الفلسطينية إلى “قضية اقتصادية” وليس سياسية لها جذور تاريخية، هو هدف إسرائيلي يبدو أنّ السلطة الفلسطينية قرّرت مجاراته ولو مؤقتاً.