العلاقات الأميركية – الروسية ليست على ما يرام. ولعلّها لم تكن على ما يرام في أيّ وقت. حتى في العهد القيصري اضطرّت روسيا إلى بيع مقاطعة آلاسكا بحفنة من الدولارات للولايات المتحدة لأنّها لم تكن قادرة على الدفاع عنها.
غير أنّ لسوء العلاقات حدوداً يحرص الجانبان على عدم تجاوزها. فلا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الروسي يريدان أن تتراجع العلاقات إلى مرحلة اللاعودة. فالدولتان نوويّتان، وقادرتان على توجيه ضربات للآخر يمكن أن تكون ذا مستوى تدميري للحياة على الكرة الأرضية. ذلك أنّ قدراتهما النووية تستطيع أن تقتل كلّ إنسان إحدى عشرة مرّة!!
لا يقتصر الصراع الروسي – الأميركي على المسرح الأوروبي. فهو يجري أيضاً على مسرح الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا والعراق حيث توجد قوات أميركية وروسية تحت مظلّة مكافحة الإرهاب
تتّهم الولايات المتحدة الكرملين بأنّه عدواني مع الخارج وقمعيّ في الداخل. وتقدّم مثلاً على العدوانية موقفه من أوكرانيا. ويردّ الاتحاد الروسي بأنّ الولايات المتحدة تجيز لنفسها ما تحرّمه على غيرها. فهي تجيز لنفسها الذهاب إلى الشرق الأقصى للإبقاء على تبعيّة تايوان للمنظومة العسكرية الأميركية في المنطقة، وتستكثر في الوقت ذاته على روسيا موقفها من أوكرانيا التي تجاورها مباشرة، والتي كانت لعقود طويلة جزءاً من الاتحاد السوفياتي. فلماذا يصحّ لواشنطن السيطرة على تايوان في وجه الصين، ولا يصحّ لموسكو الهيمنة على أوكرانيا في وجه حلف شمال الأطلسي؟
تضغط الولايات المتحدة على حلفائها الأوروبيين، وخاصة على ألمانيا، لوقف استيراد النفط والغاز من روسيا. ويشتدّ الضغط الأميركي على ألمانيا تحديداً لوقف إكمال العمل في خط الأنابيب الثاني الذي يربط روسيا بألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق، أي من دون المرور في أوكرانيا التي تحوّلت من الولاء لموسكو إلى الولاء لواشنطن. لكنّ هذا الضغط لم يثمر حتى الآن لأنّ حاجة ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى إلى استيراد النفط والغاز الروسيّيْن لا تقلّ عن حاجة روسيا إلى تصديره.
من هنا يخشى أن يستدرج الصراع الأميركي – الروسي الجانبين إلى مواجهة نووية لا يريدانها ولا يستطيعان تحمّل نتائجها.
فشل مقاطعة روسيا
لم تلوِ المقاطعة الاقتصادية ذراع روسيا، ولم تثنِها عن ثوابتها، بل جعلتها تتكيّف معها في صناعاتها الداخلية، وفي علاقاتها التجارية الخارجية، حتى إنّها أقامت “اقتصاد الحصار” للاستغناء الذاتي عن المصادر الخارجية.
ثمّ إنّ المقاطعة أثبتت أنّها أشبه ما تكون بقنبلة صوتية. ذلك أنّ أشدّ أنواع المقاطعة التي تتعرّض لها كوبا وفنزويلا وحتى إيران، لم تثنِ أيّ دولة منها عن التمسّك بثوابتها ولم تفرض على أيّ منها تغييراً حقيقياً في سياستها أو في مواقفها.
ماذا يبقى للضغط على روسيا؟
هذه الصيغة من السؤال مطروحة في واشنطن. أمّا الصيغة الأخرى المطروحة في موسكو فهي: ماذا بعد فشل سياسة الضغط؟ خاصة بعد موافقة الرئيس جو بايدن على طلب مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل استمرار العمل بخط أنابيب روسيا – ألمانيا مباشرة عبر البلطيق.
عمد بايدن بعد وصوله إلى البيت الأبيض إلى تشكيل فريق من الاختصاصيّين بالشؤون الروسية. معظم أعضاء هذا الفريق يتحدّرون من أصول روسية. والسبب في هذا الاختيار هو أنّهم يعرفون الأوضاع الداخلية الروسية على نحو أفضل. لكن في الحسابات الروسية فإنّ روسيا التي يعرفونها تغيّرت في العقود الأخيرة، وثمّة وقائع وحسابات جديدة تقوم عليها دبلوماسية الكرملين مدعومة بأسلحة باليستيّة – نوويّة متطوّرة.
لا يقتصر الصراع الروسي – الأميركي على المسرح الأوروبي. فهو يجري أيضاً على مسرح الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا والعراق حيث توجد قوات أميركية وروسية تحت مظلّة مكافحة الإرهاب. وسحب القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان يعني امتداد خشبة هذا المسرح إلى المثلّث الهندي – الباكستاني – الأفغاني، حيث يقفز إلى المسرح لاعب جديد هو الصين، وهو اللاعب الذي يشكّل وجوده كابوساً يُقلق الولايات المتحدة وحلفاءها.. فكيف إذا تحالف مع روسيا؟
لا توجد حدود للعبة الأمم. فالمعادلات التي تتحكّم بقضية تايوان مثلاً، تفرض ذاتها على قضية أوكرانيا. والابتهاج الأميركي للانسحاب السوفياتي من أفغانستان في عام 1997 يقابله اليوم ابتهاج روسي بالانسحاب الأميركي.
ولقد أثبت الانسحابان (وقبلهما الانسحاب البريطاني) استعصاء السيطرة على أفغانستان، أو الهيمنة عليها، وهي المتمسّكة بتقاليدها القَبَلية المنغلقة وبرفضها التغيير الاجتماعي على النمط الغربي.
مع ذلك ثمّة أمر مختلف ومهمّ، فبعد الانسحاب السوفياتي لم تكن الصين مهيّأة للعب أيّ دور في المنطقة. أمّا الآن فإنّها متحفّزة للقيام بعدّة أدوار من خلال خلافاتها الحادّة مع الهند (حليفة الولايات المتحدة) من جهة، ومن جهة ثانية من خلال تحالفها مع باكستان المتداخلة حتى العمق مع أفغانستان جغرافياً وبشرياً. يُضاف إلى ذلك أنّ طريق الحرير الصينية من الشرق إلى الغرب تمرّ عبر هذه الدول، وطريق الحرير النفطية تمرّ من الغرب إلى الشرق عبر هذه الدول أيضاً.
عندما ضمّت أو استرجعت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، دخلت علاقاتها مع دول حلف شمال الأطلسي (أميركا والاتحاد الأوروبي) مرحلة جديدة.
إقرأ أيضاً: “أساس” ينشر محضر لقاء بايدن – بوتين: الاستقرار الاستراتيجي
وعندما أعلنت الصين بعد استرجاع هونغ كونغ عزمها على استرجاع تايوان أيضاً، دخلت علاقاتها مع الولايات المتحدة مرحلة جديدة كذلك.
يواكب العالم العربي هذه المستجدّات عن بعد على الرغم من أنّ مصالحه الأمنيّة والاقتصادية، ومصالحه الأمنيّة والاستراتيجية أيضاً، مرتبطة بهذه المتغيّرات وتداعياتها. وفي لعبة الأمم كلّ شيء متحرّك، والثابت الوحيد هو عدم المعرفة.