مع انتهاء العام 2021، وبدء العام الأخير من ولاية الرئيس ميشال عون، يُطرح السؤال:
هل يبقى لبنان؟
هو ليس سؤالاً جديداً. لكن السؤال الأهم: كيف صمد لبنان حتى اللحظة؟ مقوّمات لبنان كدولة تقليديّة، لا تكفي للعثور على جواب تقليديّ. فما يفرّق طوائف لبنان أكثر مما يجمعها. لا الدين، وهم طوائف. ولا اللغة، بما أنه ثمّة ميول لاستعمال لغات أجنبية بدلاً من اللغة الرسمية في التحادث اليوميّ، وفي التعاملات التجاريّة والثقافيّة. ولا الأيديولوجيا، وهناك استقطاب قوي بين دعاة الليبراليّة الاقتصاديّة والسياسيّة ونقيضها. ولا التاريخ، ولكل طائفة تاريخها، بل قراءتها الخاصة لأحداث التاريخ، قديمه وحديثه، وصولاً إلى تأسيس لبنان، ورواية الأحداث الكبرى، والحرب الأهلية ضمناً. ولا حتى الرموز، أو الأبطال القوميين. فمن هم رموز مقدسة وأبطال مبجّلون لدى طائفة ما، هم على النقيض تماماً لدى طائفة أخرى. لكن حتى هذه الهشاشة في النظام السياسيّ لا تصل إلى حدّ الكونفدراليّة، بمعنى أنّ لبنان ليس كونفدراليّاً من حيث الواقع، أي تحالف دول طوائفيّة مستقلّة، على الرغم من وجود الظلال والأَمارات على شيء من هذا القبيل، لجهة التحاصص بين الطوائف وأحزابها، من أعلى الهرم إلى أسفله. هو نظام مائع ومتحرّك، وبحسب كلّ قطاع على حدة. ففي القطاع الماليّ والنقديّ، هو نظام مركزيّ، وهذا هو معقل الدولة الأخير. أمّا في قطاعات أخرى، فتتفاوت السيطرة عليها مركزيّاً، إلى أن يصل التراخي صارخاً في أكثر الرموز سياديّة لأيّ دولة، أي الدفاع والخارجيّة. فالدفاع مخصخص بميليشيا الحزب. والخارجيّة هي لسان حالها.
قد نكون بحاجة ماسّة إلى حوار وطنيّ شامل، يكون موضوعه، نقطة واحدة لا خلاف عليها البتّة، وهي إعادة صياغة المصالح المشتركة للبنانيّين في هذا اللبنان بحدوده المعروفة
على هذا، ليس مستغرباً، أن يبقى اللبنانيّون بعد مئة سنة، عالقين عند سؤال البدايات الذي لا جواب له، وعند السؤال الغامض عن النهايات… ما مصير الكيان؟ هل يتبعثر فوضويّاً أم يتقسّم نظاميّاً تحت اسم الفيدراليّة، أي دولة بمركز قويّ، ومحافظات ذات استقلاليّة سياسيّة وإداريّة واسعة، أو اللامركزيّة الإداريّة والماليّة الموسّعة، أي من دون منح المحافظات وضعاً سياسيّاً ذاتيّاً؟ هل يبقى لبنان الكبير بحدود عام 1920، أم نعود إلى فكرة لبنان الصغير، أي الجبل المسيحي مع بعض الإطلالات على الساحل والداخل؟ وإذا كانت خيارات التقسيم والفدرلة أو تصغير لبنان، هي الأرجح في هذه اللحظة السياسيّة، فأين تقع الحدود؟ وهل ستقع حرب لاحقاً لتحديد الحدود؟ ومجدّداً، من هو اللبنانيّ الحقيقيّ بهذه النظرة الضيّقة؟ يُغفل أصحاب الطرح المتجدّد أنّ أيّ نوع من أنواع تقسيم الدولة المركزيّة وفق وظائف أو مناطق، لا فرق، يضرب العامل التوحيديّ الأساسيّ، والذي ما زال يجمع اللبنانيّين حتى في أسوأ الظروف: أي المصلحة المشتركة.
وعليه، يمكن قراءة الأحداث منذ 17 تشرين الأول عام 2019، على أنّه لأوّل مرة في تاريخ لبنان الحديث، يجري النقاش علناً وعلى أوسع نطاق، عن جدوى بقاء لبنان، وعن المصالح المشتركة التي ينبغي الحفاظ عليها وترسيخها، بما يخدم اللبنانيّين الحاليّين والذين سيأتون من بعد. لذلك، كان الغضب عارماً على كلّ السياسيّين، وعلى كلّ الأحزاب، لأنّهم اختزلوا المصلحة العامّة بمصالحهم الخاصّة أوّلاً، وبمصالح محازبيهم تالياً. حتى الخلاف مع حزب الله، بات ينطلق ليس من معاني السيادة وقيام أركان الدولة حصراً. فهذه المعاني باتت بعيدة نسبياً عن الحسّ الشعبيّ العام، أو أصبحت كذلك، بعد إخفاقات حركة 14 آذار، التي لم تحقّق لهم المصلحة. بل الخلاف الأكثر حضوراً الآن مع الحزب، حتى خلاف الشيعة أنفسهم معه، أنّ مصالحهم تتضرّر بسبب عداواته الخارجيّة، ومع دول الخليج خاصّة. لذلك، تتردّد إعلاميّاً مقولة أنّ لبنان يتعرّض لحصار ماليّ استكباريّ بهدف نفي صلة الحزب بهذا الانهيار. لكنّ الحصار سواء كان مقصوداً أو متوهّماً، فالحزب هو سببه المباشر. من هنا، فإنّه من اللافت للنظر أنّ الجهد الأكبر للحزب في هذه الأيام، ينصبّ على تأمين المازوت، وبعض السلع الأساسيّة، والاتهام المكرّر للمصارف والمصرف المركزيّ بمسؤوليّة انهيار الليرة إلى مستويات غير مسبوقة، ومسؤوليّة القطاع المصرفيّ عامّة عن التعويض على صغار المودعين.
ليس مستغرباً، أن يبقى اللبنانيّون بعد مئة سنة، عالقين عند سؤال البدايات الذي لا جواب له، وعند السؤال الغامض عن النهايات
هل انتهى لبنان؟
فأين وصل لبنان في مسيرة انهياره الحاليّ كدولة ونظام؟ هل انتفت كلّ الأسباب الموجبة للبقاء، مع لَحْظ أنّ الأسس نفسها ليست محسومة أصلاً، بل هي قيد التنازع أو النقاش في أقل تقدير؟ لو قصرنا النظر في المكوّنات التقليديّة لأيّ دولة، لما قامت الدولة اللبنانيّة المستقلّة عام 1943، ولتفكّكت بعد الجلاء العسكريّ الفرنسيّ عن أراضيها مباشرة عام 1946، ولتفتّت لبنان عقب النزاعات الكبرى في الأعوام (1958، 1975-1990، 2005، 2008). لننظر في الجانب الإيجابيّ، ولنعترف أنّ لبنان ككيان سياسيّ جامع، كان أقوى من دول أكبر منه بكثير، وأمتن منه نسيجاً اجتماعيّاً، وأقوى منه سياسيّاً وعسكريّاً، ولا تعود قوته الذاتيّة إلى العوامل المتعارف عليها. بل إلى نقطة أساسيّة، وهي المصلحة المشتركة بين اللبنانيّين في البقاء معاً، وليس العيش المشترك، وفي الحفاظ على الدولة ولو كحدّ أدنى، أي ما هو كافٍ فقط لضمان هذه المصلحة، لا أكثر من ذلك إلى مستوى الإضرار بهذه المصلحة.
عندما أعلن لبنان الكبير عام 1920، كان المسلمون عموماً خارج المعادلة، بل كانوا يعارضون قيامه، ويؤيّدون التوحّد مع سوريا. فلما تبدّت مصلحة في البقاء، بل في الانضمام بطواعية إلى الدولة الجديدة، تُرجم ذلك ميثاقاً وطنيّاً بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح. هذا الميثاق لا يُختصر بنفيين، (لا للوحدة مع سوريا، ولا للتمسك بفرنسا)، بل هو يتضمّن أيضاً الأسس الكفيلة بإرساء المصلحة الوطنيّة المشتركة، وهو ما ورد بشكل غامض في المادة 95 من الدستور لعام 1926، “بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق، تمثّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة”، أي بانتظار إلغاء الطائفيّة السياسيّة. ثم تعهّدت بعض حكومات ما قبل الاستقلال، كما الحكومة الاستقلاليّة الأولى لرياض الصلح عامي 1943، بإيجاد الطرائق المناسبة لإلغاء الطائفيّة في الوظائف الإداريّة وفي المواقع السياسيّة، سعياً للعدالة والمساواة بين جميع اللبنانيّين. بعبارة أخرى، كان المقصود من هذا المطلب المزمن الذي أضحى مطلباً تاريخيّاً للطوائف الإسلاميّة، هو إيجاد المصلحة في بقاء لبنان، بعدما توافرت المصلحة الأوّليّة في الانضمام إلى الجمهوريّة اللبنانيّة. التردّد المسيحيّ في إلغاء الطائفيّة السياسيّة، والذي تحوّل إلى موقف راسخ مع الزمن وتحوّلاته واضطراباته العنيفة، هو ما أبقى الدولة كغاية نهائيّة موضع تساؤل، حتى بعد إقرار اتفاق الطائف عام 1989، لآليّة عمليّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة.
إقرأ أيضاً: صلاة “الجنّاز” على لبنان المحتضر!
من كلّ ما سبق، قد نكون بحاجة ماسّة إلى حوار وطنيّ شامل، يكون موضوعه، نقطة واحدة لا خلاف عليها البتّة، وهي إعادة صياغة المصالح المشتركة للبنانيّين في هذا اللبنان بحدوده المعروفة، من دون أفكار مسبقة، ولا أيديولوجيّات.