أزمة أوكرانيا تكشف عورة أميركا

مدة القراءة 9 د

مارتن إنديك (Martin Indyk Foreign Affairs)

 

بذل الرئيس جو بايدن أفضل ما عنده لحشد المجتمع الدولي خلفه ضدّ أيّ اجتياح روسي لأوكرانيا. ونجح في استمالة الدول الأوروبية بعد تردّد بعضها، حتى إنّ ألمانيا باتت الآن ملتزمة مقاربة موحّدة بإزاء الأزمة الأوكرانية. وفي المقلب الآخر من الأرض، انحازت أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية إلى الولايات المتحدة. بالمقابل، برهن بوتين مع افتتاح الألعاب الأولمبية في الصين على أنّ بكين تقف إلى جانبه ضدّ توسّع حلف الناتو. أمّا البرازيل والهند فلم تقرّرا بعد موقفهما من الأزمة. والخلاصة أنّ معظم الشركاء التقليديين للولايات المتحدة انحازوا إليها.

الموقف الصعب هو الذي واجهته واشنطن مع حلفائها وشركائها في الشرق الأوسط، الذين يتعاطفون مع أوكرانيا، لكنّهم لا يرغبون باتّخاذ أيّ موقف معادٍ لروسيا. ويبدو أنّ الولايات المتحدة تدرك الآن كم تغيّر الشرق الأوسط بسبب قرار الرئيس الأسبق باراك أوباما التخلّي عن الشرق الأوسط كأولويّة في السياسة الخارجية الأميركية. لقد انخفض سقف ما يتوقّعه شركاء أميركا منها في المنطقة، وعلى واشنطن الآن تلقّي النتائج.

قد لا يكون حلفاء واشنطن وشركاؤها في الشرق الأوسط مهمّين في الجهود المبذولة لردع روسيا عن غزو أوكرانيا. وقد يكونون على استعداد للمساعدة على هامش الأزمة

حتّى أنتَ يا “بينيت”؟

إسرائيل هي الحليف الأقرب إلى الولايات المتحدة، لكنّ التغيير نالها أيضاً. في منتصف كانون الثاني، انعقدت مشاورات استراتيجيّة بين أميركا وإسرائيل، وكان التركيز منصبّاً على طموحات إيران النووية، فيما تجهد واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون لإنقاذ الاتفاق النووي المنعقد مع طهران عام 2015، والذي تخلّى عنه دونالد ترامب. ومع أنّ هذه المشاورات جرت أثناء الضغط الذي تمارسه إدارة بايدن لاحتواء التكتيكات الروسيّة الهجومية ضدّ أوكرانيا، إلا أنّها لم تلحظ أوكرانيا. وفي الواقع، التزمت إسرائيل الصمت المدروس، منذ أن بدأ بوتين يحشد قوّاته على حدود أوكرانيا في الخريف الماضي، ما عدا مبادرة الوساطة التي عرضها رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت بين أوكرانيا وروسيا، والتي رفضها بوتين بشكل قاطع.

وأخيراً، عارض وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد علناً تقديرات إدارة بايدن بشأن اجتياح روسي قريب لأوكرانيا. وفي مطلع شباط الحالي، تناقش بايدن وبينيت هاتفياً في أزمة أوكرانيا من جملة مسائل أخرى، فجاء البيان الرسمي الصادر عن البيت الأبيض يؤكّد الالتزام الأميركي بأمن إسرائيل، من دون ذكر أوكرانيا. هذا كلّه، على الرغم من أنّ إسرائيل تتمتّع بعلاقات وثيقة مع أوكرانيا التي تضمّ إحدى أكبر الجاليات اليهودية في العالم خارج إسرائيل، ويبلغ عددها 300 ألف شخص. بل إنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه هو يهوديّ. كلّ هذا كان ينبغي أن يدفع إسرائيل إلى التضامن مع الولايات المتحدة، بالنظر إلى افتخارها بالتزامها الحفاظ على النظام الليبرالي الدولي، وبأنّها الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فضلاً عن اهتمامها بحماية حدودها الضيّقة من اجتياح محتمل. لكنّ الخبراء الإسرائيليين يؤكّدون الآن أنّ على إسرائيل البقاء على الحياد في أزمة أوكرانيا.

 

واشنطن ليست شريكاً موثوقاً

الكويت ذات علاقة مميّزة مع الولايات المتحدة، ولا سيّما بعد تحريرها من الجيش العراقي في حرب 1990-1991، وهي دعمت دائماً أولويّات واشنطن في الشرق الأوسط وسواه. وتشعر بحساسيّة خاصة بإزاء مخاطر رضوخ المجتمع الدولي لجار كبير يغزو دولة صغيرة. ومع ذلك، عندما زار وزير الخارجية الكويتي، الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح، واشنطن في منتصف شهر كانون الثاني الماضي لإجراء حوار استراتيجي مع وزير الخارجية أنطوني بلينكن، تجنّب الدبلوماسي الكويتي الإشارة إلى الموضوع الأوكراني.

مصر حليف استراتيجي للولايات المتحدة منذ مدّة طويلة، وتستفيد أيضاً من السخاء الأميركي، لكنّها تشتري أيضاً أسلحة من روسيا، وتحتاج إلى تعاون موسكو للحفاظ على الاستقرار في ليبيا المجاورة. لذلك ليست مصر مهتمّة باتّخاذ موقف ضدّ بوتين بشأن أوكرانيا، خاصة حين قرّرت إدارة بايدن تعليق مساعدة للقاهرة بقيمة 130 مليون دولار.

وتتمتّع المملكة العربية السعودية بعلاقات عميقة مع الولايات المتحدة، وكانت في الماضي حليفاً ثابتاً في الجهود المبذولة آنذاك لاحتواء الشيوعية السوفيتية في الشرق الأوسط الكبير. وغالباً ما استغلّت المملكة قدرتها على زيادة إنتاج النفط لخفض السعر كلّما احتاجت الولايات المتحدة إلى ذلك. لكن في الأزمة الأوكرانية، لا يتعاون السعوديون، في الأقلّ حتى الآن. وبسبب التوقّعات بانتعاش الاقتصاد العالمي أسرع ممّا كان متوقّعاً بعد جائحة كورونا، ومع توقّع اضطراب الإمدادات النفطية بسبب أزمة أوكرانيا، حلّقت الأسعار إلى ما يزيد على 90 دولاراً للبرميل. وإذا غزت روسيا أوكرانيا، فمن المتوقّع أن يرتفع السعر إلى 120 دولاراً. وقد تكون هذه أنباء سيّئة لجهود بايدن لكبح التضخّم في الولايات المتحدة قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس نهاية العام الجاري. ومع ذلك، تبدو المملكة العربية السعودية صامدة أمام مناشدات حليفها الأميركي.

إنّ قادة الشرق الأوسط لم يعودوا يرون في الولايات المتحدة شريكاً يمكن الاعتماد عليه.

قادة الشرق الأوسط لم يعودوا يرون في الولايات المتحدة شريكاً يمكن الاعتماد عليه

دور السعودية.. وبايدن

قد يمسك بايدن الهاتف، ويمتصّ انتقادات التقدّميين في حزبه، أو من هيئة تحرير صحيفة “واشنطن بوست”. لكن ليس من المؤكّد بأيّ حال من الأحوال أنّ الأمير محمد بن سلمان سيردّ عليه بشكل إيجابي. تبدو روسيا للمملكة العربية السعودية بشكل مختلف عمّا كانت عليه في العقود السابقة. فروسيا تصدّر الآن ما يقرب من كميّة النفط التي تصدّرها السعودية، وقد تسلّمت أخيراً دوراً قيادياً في “أوبك +”، وهي منظمة منتجي النفط التي تتحكّم في الأسعار من خلال تحديد حصص الإنتاج لجميع أعضائها. اعتادت السعودية أن تكون في وضع الهيمنة على “أوبك”، لكن في بداية جائحة كورونا في عام 2020، عندما انخفض الطلب على النفط بشكل كبير، انخرط الأمير محمد بن سلمان في حرب لخفض الأسعار مع موسكو أدّت إلى انخفاض سعر النفط إلى الصفر تقريباً. تدخّل الرئيس دونالد ترامب وتوسّط في اتفاق بين روسيا والسعودية لخفض إنتاج نفط أوبك بشكل كبير، وهو ما جعل موسكو شريكاً للرياض في تحديد أسعار النفط. الاستجابة لنداء الرئيس جو بايدن الآن تتطلّب من بن سلمان أن يخرق اتفاقه مع بوتين، وأن يتخلّى عن الأرباح المفاجئة والناتجة عن ارتفاع أسعار النفط، وهو ما يحتاج إليه لدعم مشاريع التحديث الطموحة.

أمّا اعتماد المملكة على واشنطن للدفاع عنها عند الحاجة، فقد اهتزّ بشدّة في أيلول 2019، عندما تعرّضت منشآت النفط السعودية في بقيق لهجوم بطائرات مسيّرة إيرانية وصواريخ أوقفت 50 في المئة من إنتاجها النفطي. وبدلاً من مسارعة واشنطن إلى الدفاع عن المملكة، راوغ ترامب ثمّ أشار إلى أنّه هجوم على السعودية وليس على الولايات المتحدة، وأنّه إذا قرّر الردّ، فعلى السعوديين دفع ثمن ذلك.

سياسة ترامب في المنطقة، كانت امتداداً لتخلّي سلفه الرئيس باراك أوباما، عن فرض خطّه الأحمر في سوريا عام 2013 عندما استخدم بشار الأسد الأسلحة الكيمياوية ضدّ شعبه. واصل بايدن هذا الاتجاه، مقلّلاً من التركيز على الشرق الأوسط لأنّه جعل مجابهة الصين على رأس أولويّاته. وعندما أنهى بايدن “الحرب الأبدية” في أفغانستان وسحب بقيّة القوات الأميركية من هناك، توصّل قادة الشرق الأوسط إلى استنتاج مشترك: لم تعُد الولايات المتحدة شريكاً موثوقاً به في أمن المنطقة. ومع مرور الوقت، أصبح القادة العرب مرتاحين لاستراتيجية التحفّظ التي تنطوي على علاقات أكثر دفئاً مع روسيا. فروسيا باتت قوّة الحفاظ على الوضع الراهن، فيما بدت الولايات المتحدة داعمة لحالة عدم الاستقرار في المنطقة.

 

ماذا عن الإسرائيليين؟

بالنسبة للإسرائيليين، لم تكن الحسابات مختلفة، على الرغم من اعتمادهم الشديد على الولايات المتحدة. فالتهديد الوجودي بالنسبة إليهم هو إيران. ويوجد وكلاء إيران على ثلاثة من حدود إسرائيل الأربعة: حماس في غزّة، وحزب الله في لبنان، والميليشيات التي تسيطر عليها إيران في سوريا. وتخوض إسرائيل ما تسمّيه “الحرب بين الحربين” لمنع نقل الصواريخ الإيرانية المتطوّرة وأنظمة التوجيه عبر سوريا إلى حزب الله في لبنان، ولإجهاض محاولات الميليشيات المدعومة من إيران فتح جبهة أخرى مع إسرائيل، في مرتفعات الجولان. لذلك، فإنّ الوجود العسكري الروسي في سوريا يجعل موسكو لاعباً في هذا الصراع أكثر من واشنطن، التي تحتفظ بقوة محدودة في شرق سوريا، لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لكنّها تركت إسرائيل لتدافع عن نفسها في بقيّة البلاد. والطريقة الوحيدة التي يمكن لإسرائيل من خلالها مواصلة هجماتها الجويّة على أهداف إيرانية في سوريا، هي موافقة سلاح الجوّ الروسي على استخدام إسرائيل للمجال الجوّي السوري.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا.. هزيمة بلا حرب

قد لا يكون حلفاء واشنطن وشركاؤها في الشرق الأوسط مهمّين في الجهود المبذولة لردع روسيا عن غزو أوكرانيا. وقد يكونون على استعداد للمساعدة على هامش الأزمة. لكنّ الصمت العلني لجميع تلك البلدان في هذه الأزمة يتحدّث عن الجيوبوليتيكا الجديدة للشرق الأوسط. أصبحت روسيا لاعباً في المنطقة، وملأت جزئيّاً الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة. وسلّطت الأزمة الأوكرانية الضوء على مفارقة قاسية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من أنّ واشنطن خفّضت من مكانة مصالحها هناك، وكان ينبغي لذلك أن يسمح بتأكيد أكبر للقيم الأميركية، فإنّ عودة الجيوبوليتيكا تجبر إدارة بايدن على تبنّي واقعية جديدة. فمهما كانت النيّات الحسنة للولايات المتحدة في المنطقة، فإنّ مصالحها هناك تنال الأولويّة بشكل متزايد على قيمها.

 * مارتن إنديك: سفير سابق في إسرائيل، ومساعد سابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى في إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، وباحث مميّز في مجلس العلاقات الخارجية.

 

لقراءة النصّ الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدمان لترامب: كانت المرة الأولى أكثر سهولة

العالم هو دائماً أكثر تعقيداً مما يبدو خلال الحملات الانتخابية، وهو اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.. وإذا كان قد تمّ تجاوز الكثير من…

برنامج ترامب منذ 2023: الجمهورية الشعبية الأميركية

“سأحطّم الدولة العميقة، وأزيل الديمقراطيين المارقين… وأعيد السلطة إلى الشعب الأميركي“. هو صوت دونالد ترامب الرئيس 47 للولايات المتحدة الأميركية المنتخب يصدح من مقطع فيديو…

20 ك2: أوّل موعد لوقف إطلاق النّار

في حين أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هيرتسي هاليفي أنّ إسرائيل تضع خططاً لتوسيع هجومها البرّي في جنوب لبنان، نقلت صحيفة “فايننشيل تايمز” البريطانية عن…

نصائح أوروبيّة وكوريّة… للتّعامل مع ترامب

تستعدّ الحكومات الحليفة والصديقة للولايات المتحدة الأميركية، كما العدوّة والمنافسة لها، لتحوّلات مقلقة وإدارة أكثر تقلّباً في واشنطن في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية الأميركية مع…