يقول بريجنسكي، المستشار السابق للأمن القومي الأميركي، إنّ روسيا هي دولة عظمى في حال كانت على ودّ مع أوكرانيا، وتصبح دولة كبرى فقط في حالة عدم التوافق معها، وهو ما نشهده حالياً.
فهل تقبل روسيا بأن تكون دولة كبرى بدلاً من أن تكون عظمى؟!
وهل يراها رئيسها فلاديمير بوتين كذلك، وهو القيصر الجديد الباحث عن مجدها الضائع؟
وما هي روسيا بالنسبة له؟
بالنسبة إلى بوتين، تُعتبر الهويّة الروسية وقضيّتها الأيديولوجيّة الشغل الشاغل والمسألة الأساسيّة جدّاً له. فروسيا بالنسبة إليه قد فقدت، لأسباب تعود إلى انهيار الشيوعية، حوالى أربعة قرون من تاريخها، ويجب أن تعوّضها وتستردّها.
ماكرون يبحث، بعد رسوبه المرحلي في لبنان، عن إنجاز دولي جديد من الممكن أن يدعمه في الانتخابات الرئاسية لولاية ثانية على الرغم من أنّه لم يعلن رسمياً ترشّحه حتى الآن
روسيا – بوتين هي الإمبراطورية وملكة أوراسيا فقط. غير أنّه يؤمن بأنّ العلاقات المستقرّة بين روسيا والولايات المتحدة والتوازن مع قلب أوروبا هما جوهر وأصل الاستقرار والهدوء في جميع أنحاء العالم.
شعب واحد في بلدين
تشبيهاً وقياساً فقط، فإنّ أوكرانيا بالنسبة لروسيا مَثَلها مَثَل لبنان بالنسبة لسوريا. وهنا على سبيل الذكر وليس البحث، فإنّ الشعبين الأوكراني والروسي بحسب النظام الروسي شعب واحد في بلدين، وهو نفس توصيف النظام السوري بالنسبة للبنان، مع فارق التمايز بالروابط الروسية الاجتماعية واللغوية والثقافية في أوكرانيا، وخصوصاً في إقليم دونباس الانفصالي.
المشكلة الروسية – الأوكرانية هي أكثر من حسّاسة وتعزف على أوتار متعدّدة، فهي بالعمق أبعد من كونها أزمة ناتو وتمدّده وانتهاجه لسياسة الباب المفتوح، أو الخطر على الأمن القومي، والاستراتيجية الأوروبية، والتهديد للهيبة الضائعة الأميركية. إنّها بالنسبة لروسيا مسألة وجودية ولأوروبا واتحادها موضوع مبدئي، وتشكّل لأميركا فصلاً جديداً من مسلسل الحرب الباردة بالنسخة الصينية، وضياعاً إضافياً في سياستها الدولية. فالولايات المتحدة لم تعُد تعتبر روسيا “خصماً” لها بل الصين، وذلك على الرغم من الاعتراف بوجود بعض المشكلات التي تعتري العلاقات بين البلدين.
على الرغم من المتناقضات الكبيرة في اللقاء الأخير الذي جمع الرئيسين فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون، ومسألة اختلال الثقة الدبلوماسية، إلا أنّهما كانا متّفقيْن على موضوع الأمن الأوروبي ومسألة الغاز التي لا بديل عنها لكلا الطرفين. لقد بحثا موضوع الناتو بشكل مختلف عمّا في الظاهر. فالرئيس ماكرون بات لا يطيقه أبداً، وقد أعلن موته السريري منذ مدّة، وهو متحمّس لفكرة “الجيش الأوروبي”. والرئيس بوتين بحسب الناتو هو العدوّ، لذلك انطلق البحث هذه المرّة من روحيّة القارّة السمراء (إفريقيا)، وبالأخصّ من مالي بروحيّة “الفاغنر” بلاك ووتر روسيا، والارتباك الفرنسي الحاصل أخيراً هنالك الذي تُوّج بطرد السفير الفرنسي منها، وهو انكسار تاريخي لها وتقدّم جيوبوليتيكي ملموس لروسيا في أراضي الإمبراطورية الفرنسية الإفريقية وحديقتها الخلفية للأمن القومي.
بموازاة ذلك تعمل أميركا على خلق توازنات جديدة لها ومنطق آخر للحرب الباردة باللهجة الصينية، من خلال محاولة الحفاظ على كميّات الغاز الضرورية، باعتبارها “مكمش” روسيا على أميركا وأوروبا، ووسيلة ضغط روسية. لذلك نرى أميركا تنفتح بشكل كبير على قطر في في محاولة لتأمين الغاز من مصدر غير روسي للسعي إلى التحرّر من قبضة روسيا الغازية.
التناقضات والضمانات
مع انتفاء أيّ معيار غربي كضمانة لروسيا لإنهاء توسّع الناتو، هل تساهم التقاطعات الباطنية لكلّ من فرنسا وألمانيا وروسيا في إطفاء فتيل الأزمة؟
يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التغيير الجذري لروسيا بوتين، وانتقالها من دولة ضعيفة جيوسياسياً، محاصَرة بلاعبين أكثر قوّة وأشدّ عداءً، إلى دولة كبرى وعظمى من جديد، استطاعت أن تخلق توازناً من جديد وحتى تقدّماً، وأن تصبح مؤثّرة في مناطق عديدة من العالم من الشرق الأوسط وإفريقيا، وبالطبع أوروبا.
لا يريد الرئيس بوتين العودة إلى الاتحاد السوفياتي، فهو القيصر في العصر الرقمي ويخطّط لعصر جديد من الإمبراطوريات
“لاءات أوكرانيا”
على الرغم من كلّ ما يحصل لن تضطرّ وحتى لم تفكّر أوكرانيا في تجاوز خطوطها الحمراء القائمة على ثلاث مسلّمات غير قابلة للنقاش، وهي عبارة عن ثلاث “لاءات”:
– لا مساومة على وحدة أراضي أوكرانيا.
– لا مفاوضات مباشرة مع الانفصاليين.
– لا سماح للتدخّل في سياستها الخارجية.
لاءات أقرب إلى إعلان. ويبدو كأنّها ردّ على الشائعات الملحّة بشكل متزايد في الدوائر الدبلوماسية في كييف وخارجها، بأنّ الحلّ الدبلوماسي الذي يحاول ماكرون إعادته للوطن يتمحور حول اتفاقيات مينسك. ويمكن في الأساس للرئيس الفرنسي أن يطلب من زيلينسكي قبول تفسير روسيا لاتفاقيات مينسك من خلال منح السلطات الانفصالية في دونباس حق النقضّ لعلاقات أوكرانيا المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي أو الناتو. وقد يمثّل مثل هذا الاتفاق النتيجة الأكثر إثارة للخوف من قبل العديد من دول أوروبا الشرقية التي تطمح أو هي بالفعل جزء من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
خطّ أنابيب الخلاف؟
لم تتّضح إلى الآن مؤشّرات الوحدة المقنّعة بين الحلفاء من واشنطن إلى باريس فبرلين، وسمعنا تصريحات حازمة أنّه في حالة حدوث تدخّل عسكري روسي سيتمّ اتّخاذ الإجراءات اللازمة، لكنّنا لا نعرف ماهيّتها. هنالك اتحاد مع الحلفاء والشركاء، لكنّه ليس تامّاً، وخصوصاً لجهة خطّ أنابيب الغاز، فالأميركي هدّد بشكل مباشر بأنّه في حالة الغزو “لن يكون هناك المزيد من نورد ستريم 2″، فيما الألماني كان أكثر حذراً وتعمّد عدم تسمية خط الأنابيب صراحةً لأنّه لا يستطيع أن يفرّط بهذا المصدر.
وقد توحّد جميع القادة المتورّطين في هذه الأزمة التي يصاحب فيها التصعيد العسكري المستمرّ على الحدود الشرقية لأوكرانيا “حرب أعصاب”، ويضعون رأسمالهم السياسي على المحكّ كلّ على طريقته، ويريدون عائداً على استثماراتهم:
1- ماكرون يبحث، بعد رسوبه المرحلي في لبنان، عن إنجاز دولي جديد من الممكن أن يدعمه في الانتخابات الرئاسية لولاية ثانية على الرغم من أنّه لم يعلن رسمياً ترشّحه حتى الآن. لكنّه يلعب للظفر بولاية ثانية في الإليزيه. يحاول أن يبرز صورته كرجل دولة أوروبا القادر على أن يحلّ محلّ أنجيلا ميركل في إخراج أوروبا من خطر الصراع خارج حدودها بفضل وساطته.
2- المستشار الألماني أولاف شولتز يستغلّ فرصة زيارته الأولى للبيت الأبيض لتعزيز سلطته بعد بداية هشّة في منصب المستشاريّة، وهي الأولى في حقبة ما بعد أنجيلا ميركل.
3- ورئيس الوزراء البريطاني بوريس وجونسون يسعى إلى أن يثبت وفاءه لأوروبا وأمنها من خارج الاتحاد.
4- أمّا الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يحاول ويبذل الجهد مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي على أنغام صدمة انسحابه الهزيمة من أفغانستان، فهو لا محالة بحاجة ماسّة إلى إبراز صورة الهيبة والقوة في الداخل والخارج.
5- بوتين، القيصر الروسي في زمن ما بعد الإمبراطورية… بعد نجاحه في جذب انتباه العالم إليه وإلى روسيا الجديدة على أثر حشد قواته على الحدود مع أوكرانيا، فها هو قد أصبح في خضمّ عمليّة تبديل مستمرّة للمكالمات الهاتفية والاجتماعات الدبلوماسية. وزيارته بكّين أخيراً كانت كافية لإثارة وهج المحور الصيني الروسي، وإبراز عداوته مع حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة. فهو الرئيس المغامر الذي لا يمكن أن تنجح في التنبّؤ بمخطّطاته. وحده الذي يعرف ما إذا كان سيغزو أوكرانيا أم لا.
“إمبراطورية” بوتين؟
لا يريد الرئيس بوتين العودة إلى الاتحاد السوفياتي، فهو القيصر في العصر الرقمي ويخطّط لعصر جديد من الإمبراطوريات. فالإمبراطورية (الروسية) تقوقع رغبة بوتين في بناء إمبراطورية روسية جديدة، وهي لن تتوقّف عند أوكرانيا، وعلى الأقلّ وإلى الآن لا توجد رغبة صريحة لدى الكرملين في إعادة الإمبراطورية إلى المنطقة. ومع ذلك هل تنتهج روسيا سياسة انتقامية توسّعية لاستعادة “العظمة الروسية” أم تهدف فقط إلى مواجهة نفوذ الناتو والغرب للدفاع عن مصالحها الأمنيّة، كما تدّعي موسكو؟
يبدو أنّ بوتين بعدما فشل في تحقيق أهدافه بوسائل أخرى، قد قرّر التلويح بالقوة العسكرية سبيلاً وحيداً لإعادة أوكرانيا إلى فلك روسيا، ذلك أنّ الهدف المتمثّل في إعادة بناء إمبراطورية روسية أو إمبراطورية شبيهة بالاتحاد السوفياتي يساعد في حشد الدعم من المجتمع الروسي، لكنّه ليس هدفاً في حدّ ذاته. فآراء بوتين حول أوكرانيا أمر لا يمكن إنكاره، فهو يعتبرها دولة مصطنعة وينكر سيادتها، ففي نظر بوتين “الأوكران هم الإخوة الصغار الجامحون”.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا- لبنان: “الشعب الواحد في بلدين”!
ما هو نورد ستريم 2؟
لقد تحوّل نورد ستريم 2 بشكل متزايد إلى “خط أنابيب للشقاق والنزاع”. إذ إنّ من المفترض أن يصل خط أنابيب الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق متجاوزاً أوكرانيا، وهذا يعني حرمانها سنوياً من حقوق نقل تعادل 7% أو 8% من إيرادات الدولة، وبينما يكتمل خط الأنابيب وينتظر الضوء الأخضر النهائي لبدء عملياته يرغب الكثير في الأوساط السياسية الغربية والأوكرانية في تعليق المشروع في ضوء الأزمة. ويرجع ذلك جزئياً إلى أنّه سيزيد من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، وهو ما يكرّس أهميّة الدبّ الروسي الفريدة في سوق الغاز الأوروبية على وجه التحديد. وقد تحمل هذه الخطوة تكاليف باهظة على الدول الأوروبية على المديين القصير والمتوسط، لكنّ التأخير في خط الأنابيب لأسباب أخرى غير تنظيمية لن يؤدّي بالمقابل إلا إلى تعريض الأمن الأوكراني للخطر.
*- استاذ محاضر في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا.
– خبير قانوني في المفوضية الأوروبية.
– مستشار قانوني واستراتيجي في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس – سويسرا.