في مقابلته مع قناة العالم الإيرانية مساء الثلاثاء حاول السيّد حسن نصرالله أن يحسم أكثر من أيّ وقت مضى استقلاليّة حزب الله في تحالفه مع إيران، فقال إنّ الحزب هو صاحب قراره لا إيران، وإنّ ما قام به منذ تأسيسه في العام 1982 هو لمصلحة لبنان لا إيران. لكنّ المفارقة أنّ هذه المقابلة كانت في توقيتها ومضمونها ذات مغزى إيراني واضح، ولا سيّما أنّها بدت كأنّها موجّهة في شقّ أساسيّ منها إلى الجمهور الإيراني.
فمناسبة المقابلة، وهي الذكرى الثالثة والأربعون لـ “انتصار الثورة الإسلامية في إيران”، دفعت نصرالله إلى الاستفاضة في المقارنة بين إيران الشاه وإيران “الإسلامية” لناحية “إنجازات الثورة”. حتّى قال إنّه “في داخل إيران أناساً يحاولون خلط بعض المسائل نتيجة الشغل الذي يصير في الإعلام الخارجي”. فهل يعدّ ذلك تدخّلاً في الشؤون الإيرانية، أم يتحدّث نصرالله بوصفه جزءاً من المشهد الإيراني، أم هو مجرّد رأي لمتابع للملفّ الإيراني؟!
المقابلة كانت في توقيتها ومضمونها ذات مغزى إيراني واضح، ولا سيّما أنّها بدت كأنّها موجّهة في شقّ أساسيّ منها إلى الجمهور الإيراني
بيد أنّ وظيفة المقابلة لم تقتصر على هذا الجانب، إذ نقل نصرالله رسائل سياسيّة وعسكرية مهمّة بوصفه طرفاً في المعادلة الإيرانية، وإلّا فبأيّ صفة يقول: “فلتخرج الإمارات من الحرب في اليمن، والجيش اليمني وأنصار الله لن يكون لهما مشكلة معها”. وبأيّ صفة يقول أيضاً إنّ قرار أنصار الله هو بيدهم لا بيد إيران؟
من هذه الرسائل أيضاً واحدة تتعلّق بلبنان، وتحديداً بملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. مع العلم أنّ هذه المقابلة كان مقرّراً إجراؤها الأسبوع الماضي، إلّا أنّها أُرجئت إلى الثلاثاء لكي تتزامن مع زيارة رئيس الوفد الأميركي للمفاوضات لترسيم الحدود البحرية آموس هوكشتاين لبيروت.
في هذا السياق أكّد نصرالله التزام حزبه بالحدود التي تقول الدولة إنّها حدودها، ولكنّه أكّد أيضاً أنّه لا يتدخّل في ترسيمها.
لكن يبدو أنّ عدم التدخّل هذا ليس مطلقاً. فالحزب سيتدخّل في هذا الملفّ إذا ما ذهبت الدولة إلى أيّ خيار فيه تطبيع أو شبهة تطبيع، وإن أقرّ نصرالله أنّ “المصاديق يکون فيها نقاش، إن كانت هذه تشکّل نوعاً من أنواع التطبيع أم لا”. وهو ما يعني عمليّاً أنّ هذا الملفّ بمجمله هو بيد الحزب الذي يقرّر ما إذا كان أيّ قرار للدولة اللبنانية في هذا الملفّ تطبيعيّاً أو لا
الترسيم بيد إيران؟
في الواقع فإنّ عدم الربط بين موقف الحزب هذا وبين حضور الأولويّات الإيرانية في هذا الملفّ يتطلّب سذاجة سياسية استثنائية. فصحيح أنّ هذا الملفّ هو عنوان انقسامات داخلية معروفة، لكنّ الصحيح أكثر أنّه ملفّ رئيسي لإيران التي تستخدم كلّ أوراقها الإقليمية لتحسين شروط مفاوضاتها الدولية والإقليمية، فكيف إذا كان هذا الملفّ يتيح لها تماساً مباشراً مع الولايات المتّحدة التي تتوسّط بين لبنان وإسرائيل.
لعلّ الانقسامات اللبنانية حول ترسيم الحدود تشكّل صدى للحضور الإيراني في هذا الملفّ. فالعهد الذي “استحوذ” على هذا الملفّ يشتغل فيه على مستويين. فمن جانب هو يقف إلى يمين الحزب في ادّعاء الحرص على أقصى الحقوق اللبنانية. ومن جانب آخر هو يحاول أن يستخدم هذا الملفّ لتحصيل مكاسب سياسيّة من الأميركيين، سواء في ما يخصّ العقوبات على النائب جبران باسيل أو في ما يتّصل بطموحه الرئاسي، وإلّا فلماذا لم يوقّع رئيس الجمهورية قبل أشهر على تعديل المرسوم 6433 في ظلّ اعتماد الخط 29؟
كلّ هذه المناورات تتيح للحزب ومن ورائه إيران التّحكّم بملف ترسيم الحدود البحرية وتركه معلّقاً إلى حين استحصال طهران من واشنطن على ثمن تسهيلها بتّه. وإلى أن يحصل ذلك فإنّ الحزب سيشكّل ربّما لجنة فاحصة لتقدير ما إذا كان هذا القرار أو ذاك للدولة اللبنانية في هذا الملفّ فيه شبهة تطبيع أو لا!
حتّى لو تعايش الحزب مع وجود أكثريّة متحرّكة بحسب الاستحقاقات والملفّات، فإنّ التناقضات السياسيّة والرئاسيّة ضمن فريقه قد تربك إدارته للمعركتين النيابية والرئاسية
أكثريّة “متحرّكة”
بدت رؤية نصرالله واضحة في ما يخصّ السياسات الأميركية تجاه إيران، إذ قال إنّ أولويّات الإدارة الحالية ليست الحرب مع إيران وإنّما التفاهم معها حول الاتفاق النووي. واستبعد قيام إسرائيل بعمل عسكري ضدّ إيران، واستفاض في إظهار جدوى معادلة “توازن الردع” بين الحزب وإسرائيل.
لكن في مقابل هذا الوضوح فإنّ رؤية نصرالله للمرحلة المقبلة في لبنان بدت ضبابية. فقد دحض الأمين العام لحزب الله تصريحات قيادات في حزبه كانت قد أكّدت أنّ نتائج الانتخابات معلومة منذ الآن. إذ قال نصرالله إنّه غير موافق أن يتعجّل أحد ويتكهّن بنتيجة الانتخابات من الآن. ودعا إلى ” ألا نستبق. أنا مع أن نكون واقعيّين حتى تطلع الصورة بشكل أوضح”.
كما أوحى نصرالله بإمكان عدم فوز الحزب وحلفائه بالغالبيّة النيابية في الانتخابات المقبلة كما في انتخابات العام 2018. يمكن استشفاف ذلك من تقليل نصرالله من أهميّة الغالبية النيابية التي لا “تحدث تغييراً جوهرياً”. وفي هذا السياق ذكّر نصرالله أنّ انتخاب رئيس للجمهورية يحتاج إلى ثلثي أصوات مجلس النواب، و”موضوع سلاح المقاومة أكبر بكثير من قصة أغلبيّة”.
لا شكّ أنّ تطرُّق نصرالله إلى الانتخابات الرئاسية ليس صدفة. فالانتخابات النيابية تجري وفق حسابات متّصلة أساساً بالإنتخابات الرئاسيّة، باعتبار أنّ الحزب يريد رئيساً “مضموناً” في قصر بعبدا مثل الرئيس ميشال عون. ولذلك فإنّ الحزب إذا اضطرّ إلى تجرّع كأس خسارته الغالبية النيابية والقبول بأكثرية “متحرّكة” بحسب الاستحقاقات والملفّات، فهو غير مستعدّ أبداً لخسارة رئاسة الجمهورية لستّ سنوات متواصلة.
هذا واقع معقّد بالنسبة للحزب. فمن جهة تمثّل خسارته الأكثرية الحالية انتكاسة سياسيّة له، ومن جهة ثانية فإنّ “هروب” الحزب من الانتخابات النيابية سيُعدّ تراجعاً أمام “الحرب على المقاومة” التي تمثّل انتخابات 2022 ساحة رئيسية لها وبشكل أكثر وضوحاً من انتخابات 2009 و2018، كما قال نصرالله. فضلاً عن أنّ أيّ مسعى من قبل الحزب لتأجيل الانتخابات سيضاعف الضغوط الدولية عليه، علماً أنّ نصرالله لم ينكر، وللمرّة الأولى، تأثير العقوبات الأميركية في بيئته السياسيّة والأهلية.
إقرأ أيضاً: نصر الله.. سلاح الحزب مقابل سلاح الجيش؟
لكن حتّى لو تعايش الحزب مع وجود أكثريّة متحرّكة بحسب الاستحقاقات والملفّات، فإنّ التناقضات السياسيّة والرئاسيّة ضمن فريقه قد تربك إدارته للمعركتين النيابية والرئاسية، في وقت لا يملك الحزب ترف مراضاة هذا الحليف أو ذاك على حساب أولويّاته.
يزيد كلّ ذلك من عدم “وضوح الصورة” لدى الحزب، وهو ما يطرح سؤالاً أساسيّاً عن كيفيّة تصرّفه في المرحلة المقبلة. الأكيد أنّه يسعى إلى امتصاص ارتدادات الضغوط العربية والدولية ضدّه. لذلك حاول نصرالله الفصل بين موقفه التصعيدي ضدّ الدول الخليجيّة وبين موقفه التهدويّ مع السُنّة في لبنان. إلّا أنّ تجارب الضغوط الدولية والعربية على الحزب بين العامين 2005 و2008 تجعل احتمال قلبه الطاولة احتمالاً قائماً بقوّة، ولا سيّما عشيّة استحقاقات مهمّة كالاستحقاق الرئاسي.