تنافس تركيّ فرنسيّ في أوكرانيا: مَن يفوز؟

مدة القراءة 9 د

ردّد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أكثر من مرّة أنّ بلاده جاهزة “للعب دور الوسيط ليعمّ السلام بين روسيا وأوكرانيا”. أنهى إردوغان قبل أيام زيارة متعدّدة الأهداف لأوكرانيا، وهو ينتظر قدوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا التي لن يحضر إليها هذا الأخير إلا إذا تأكّد أنّ خطوة من هذا النوع ستحمل له الكثير من الفوائد.

التنافس هو بين إردوغان وماكرون في شرق أوكرانيا. لكنّ الذي سيحسم السباق التركي الفرنسي في التعامل مع ملف الأزمة الأوكرانية هو لعبة التوازنات الأميركية الروسية

تريد أنقرة أن تذكّر واشنطن والعواصم الأوروبية الفاعلة أنّهم بحاجة إليها في الإقليم، وأنّها قادرة بحكم علاقاتها المميّزة مع موسكو وكييف أن تسجّل اختراقاً سياسياً في الملفّ. وتتحدّث القيادات السياسية التركية عن وساطة، وهي تعرف أنّ الأمور ليست بمثل هذه السهولة والبساطة، فهناك:

– الرفض الروسي لزيادة حجم النفوذ التركي في البلقان والقوقاز بعد التحرّك التركي في قره باغ وكازاخستان والملفّ الأرمني ومحاولة توحيد الجمهوريات التركية، وكلّها مسائل تتمّ على حساب روسيا بالدرجة الأولى. وكان بوتين يعلن دائماً أنّ ما يجري في شرق أوكرانيا هو مسألة داخلية، فلماذا يذهب للجلوس إلى طاولة تركية مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كطرفيْ نزاع؟

– وهناك مسألة استحالة إقناع موسكو بأنّ تركيا الأطلسية التي أعلنت أخيراً التزامها بقرارات الحلف وسياساته، وجدّدت ترحيبها بانضمام أوكرانيا إلى التكتّل، وتزوّدها بالمسيّرات التي تغضب الروس، قادرة على لعب الدور الحيادي والوقوف على مسافة واحدة من البلدين في الأزمة.

– هذا إلى جانب الغموض الكامل حول ما الذي تعرضه أنقرة على طرفيْ النزاع من أفكار وبدائل تجنّب المنطقة التصعيد والحرب، خصوصاً أنّها أعلنت رفضها المسبق لخطوات ضمّ القرم والاستفتاء الأحادي على الانفصال الذي جرى في شرق أوكرانيا.

تتطلّب الوساطة الحياديّة والوقوف على مسافة واحدة من طرفيْ النزاع والقدرة على تقديم العروض أو فرضها عند اللزوم لإنجاح المفاوضات والوصول إلى تسوية مُرضية، فما الذي تملكه أنقرة هنا لإقناع موسكو وكييف بإعطائها ما تريد؟

تركيا منحازة؟

صحيح أنّ تركيا أعلنت دعمها لوحدة أراضي وسيادة أوكرانيا، وأنّها لا تعترف بضمّ روسيا غير الشرعي لشبه جزيرة القرم، لكنّ التحرّك التركي يندرج في إطار تجنّب القرارات الصعبة التي تتعارض مع حساباتها وعلاقاتها مع البلدين. تريد تركيا حماية مصالحها التجارية والسياحية ومشاريع الاستثمار الضخمة في موسكو وكييف، وتريد أيضاً الحفاظ على علاقات التقارب مع روسيا ورفض سياسة موسكو الأوكرانية في الوقت نفسه، وهذا من المستحيلات. لن تصل علاقات إردوغان الشخصية مع نظيريْه الروسي والأوكراني إلى درجة إقناعهما بإعطاء تركيا ما تريد لأنّ اللاعبين الآخرين في الملفّ لهم حساباتهم ومصالحهم أيضاً.

 

وهناك تساؤل استراتيجي آخر يحتاج إلى ردّ:

الغرب الذي لم يدعُ تركيا إلى الطاولة الرباعية للحوار مع موسكو، هل يمنحها مثل هذه الفرصة للعب دور الوساطة وزيادة نفوذها الإقليمي وإلزام الكثير من العواصم الغربية بما ستقوله وتريده في ملفّات إقليمية عند نجاحها في حلحلة الأزمة الأوكرانية على حساب التحرّكين الفرنسي والألماني؟

جاءت الإجابة على لسان الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي دعا أكثر من مرّة إلى قمّة رباعية مع موسكو وباريس وبرلين لإنهاء الصراع في شرق أوكرانيا استكمالاً لقمم سابقة عُقدت تحت مسمّى النورماندي، لكن من دون تحقيق أيّ تقدّم. ستختار كييف الغرب ضامناً أوّلَ لحماية مصالحها إذا ما شعرت أنّ ذلك هو ورقة الضغط الحقيقية والضامن الفعلي لأيّة تسوية للأزمة.

لكن كيف ستنجح أنقرة بإقناع موسكو قبول انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الأطلسي، وهو الهدف الأميركي الاستراتيجي المهمّ لزيادة النفوذ في منطقة البحر الأسود؟ ألا يتعارض ذلك مع حسابات تركيا وروسيا في الحوض حيث كانا حتى الأمس القريب يتقاسمان النفوذ ويتبادلان الأدوار هناك؟

القول إنّ موسكو هي التي ستؤثّر على القرار التركي في ملفّ القرم هو الاحتمال الأقرب أمام حقائق مثل حاجة تركيا في هذه الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة التي تمرّ بها إلى عقودها الاقتصادية مع روسيا، ثمّ صعوبة تفريطها بعقود الغاز الروسي الذي يُعتبر المصدر الأول للغاز لها. هذا إلى جانب المشاريع الاستراتيجية المشتركة بين البلدين في محطة “اك قويو” لتوليد الطاقة النووية، وتزويد موسكو لأنقرة بصواريخ إس 400 الدفاعية، وحاجة تركيا إلى الاستمرار بالتنسيق مع روسيا في ملفّات إقليمية، بينها الأزمات السورية والليبية والأفغانية وأزمة جنوب القوقاز.

نتائج زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لروسيا ولقائه بعد ذلك نظيره الأوكراني ستساعدنا على معرفة مصير التحرّك التركي على خطّ موسكو – كييف وفرصه وإمكانية نجاحه. سيحضر بوتين إلى أنقرة بعد أن يكون قد حسم موقفه حيال الوساطة الفرنسية ليعرف ما الذي يعرضه عليه إردوغان بالمقابل في مناطق تقاطع النفوذ الاستراتيجي.

اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يرفع إلى جانبه العلم الروسي، فيما اختار ماكرون أن يرفع على السواء العلم الفرنسي وعلم المجموعة الأوروبية. هناك سباق تركي فرنسي على لعب دور الوسيط في ملف شرق أوكرانيا، لكنّ الفارق هو أنّ ماكرون يتحرّك وفوق رأسه أكثر من قبّعة: فرنسية أوّلاً وأوروبية ثانياً وأطلسية ثالثاً، فيما تتحرّك أنقرة، مشكورةً كما يقول الأمين العامّ لحلف شمال الأطلسي ستولتنبرغ بعد اتصاله بالرئيس التركي، “في إطار جهود شخصية تدعم إيجاد حلّ سياسي للأزمة بين روسيا وأوكرانيا”.

 

تركيا وفرنسا

تسجيل اختراق سياسي في الملف الأوكراني يعني الكثير بالنسبة للرئيسين التركي والفرنسي في الداخل والخارج. من المؤكّد أنّ التنافس بين الرئيسين التركي والفرنسي سيتمّ تجييره عند تحقيق إنجاز ما في التسوية لملف الأزمة الأوكرانية لمصلحة ثقلهما الحزبي والسياسي في الداخل، خصوصاً أنّ كليهما تراجعت أصوات حزبيْهما وشعبيّتهما وهما يستعدّان لمعركة انتخابية صعبة. إقليميّاً أيضاً يحتاج كلاهما إلى رافعة جديدة وقوّة دفع لا بدّ منها بعد تأزّم علاقاتهما مع عواصم وساحات استراتيجية تراجع فيها الدور والنفوذ.

ماكرون هو الأنشط في هذه الآونة، وربّما يتقدّم بالنقاط من خلال تحرّكه الأخير على خطّ موسكو – كييف – برلين، وبانتظار أن يغادر إردوغان عزلة المتحوِّل “أوميكرون”. لكنّ واشنطن تحرّكت على الفور لرسم معالم التحرّك الفرنسي والتركي والإعلان عن تمسّكها بكلّ خيوط اللعبة على كلّ الجبهات، من خلال تصريحات الجنرال إريك كوريلا، المرشّح لمنصب القائد العامّ للقيادة المركزية، أمام الكونغرس. إذا قال: “إذا ما غزت روسيا أوكرانيا، فقد يؤدّي ذلك إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط”. وهي رسالة أميركية واضحة بأنّها ستوسّع رقعة الجبهات بأكثر من اتجاه إذا لم تأخذ ما تريد.

يقول قصر “الإليزيه” إنّ الرئيسين ماكرون وبوتين توصّلا إلى توافق على نقاط عدّة لم يكشف النقاب عنها. الواضح هو أنّ ماكرون يسعى إلى تحريك الآليّة الفرنسية الألمانية للتوسّط في موضوع النزاع في القرم مستقوياً بالدعم الأميركي العلني له في هذه الوساطة. قد يرحّب بوتين بالتحرّك الأوروبي لمناكفة واشنطن سياسياً ولمحاولة شرذمة الغرب، لكنّه يتمسّك بمهاجمة حلف شمال الأطلسي الذي يحاول التوسّع باتجاه مناطق النفوذ الروسي، إذ يقول: “لسنا من يتّجه نحو حدود الأطلسي”.

أجرت وحدات تابعة للأسطول الروسي متمركزة في القرم مناورات عسكرية تهدف إلى ضمان سلامة الملاحة والتدريب القتالي لقوات الأسطول بمنطقة البحر الأسود. وأنهى حلف الأطلسي مناوراته الأخيرة في شرق المتوسط التي استمرّت لأسبوعين تقريباً بمشاركة حاملة الطائرات الأميركية “يو.إس.إس هاري ترومان”. الاستعدادت العسكرية متواصلة والمناورات يتزايد عددها يوماً بعد آخر على خط حوضيْ الأسود والمتوسّط.

تراجع التنافس الأميركي الأوروبي في البحر الأسود وحوض المتوسط لمصلحة واشنطن هو نتيجة فشل محاولات الاصطفاف والتنسيق الفرنسي الألماني الإيطالي أمام التصلّب المصري والتركي والإسرائيلي. وستفرض واشنطن، شئنا أم أبينا، رأيها على حلفائها في الأطلسي إذا ما قرّرت التصعيد مع روسيا عند تراجع فرص الحوار والدبلوماسية اللذين يتولّاهما ماكرون وإردوغان.

من المؤكّد أنّ التنافس بين الرئيسين التركي والفرنسي سيتمّ تجييره عند تحقيق إنجاز ما في التسوية لملف الأزمة الأوكرانية لمصلحة ثقلهما الحزبي والسياسي في الداخل

صفقة أميركية – روسية؟

ختاماً، فقد أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان أنّ بلاده مستعدّة لمناقشة صفقة محتملة مع الكرملين بشأن أوكرانيا: “نحن مستعدّون للقيام بكلّ ذلك، تماماً كما كنّا على مدار العقود الماضية في الحرب الباردة وما بعدها… ونحن مستعدّون، أيضاً، إذا اختارت روسيا السير في طريق مختلف”.

فيما حذّر بيان صادر عن القيادات العسكرية المتقاعدة وضبّاط الاحتياط في الجيش الروسي قبل أيام من اشتعال الجبهات في أوكرانيا، لأنّها ستلحق خسائر فادحة بالقوات الروسية والأميركية على السواء. وأشار إلى أنّ المستفيد سيكون تركيا التي ستنعش الذاكرة التاريخية لسكّان القرم.

قد لا تصل الأمور إلى هذه النقطة، لكنّ المعركة ستكون إقليمية حتماً وسيواكبها تعديل وتغيير في الخرائط، وهذا ما يعني مرّة أخرى أنّ الكرة هي في ملعب واشنطن وموسكو في النهاية.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا.. هزيمة بلا حرب

التنافس هو بين إردوغان وماكرون في شرق أوكرانيا. لكنّ الذي سيحسم السباق التركي الفرنسي في التعامل مع ملف الأزمة الأوكرانية هو لعبة التوازنات الأميركية الروسية. تتحوّل الأزمة الأوكرانية يوماً بعد يوم من أزمة القرم إلى اصطفاف إقليمي، وربّما مواجهة دولية أوسع. لكنّ الجائزة ستكون مناصفة بين بايدن وبوتين كما تعوّدنا في حالات سابقة مماثلة إبّان الحرب الباردة بين البلدين. والأمثلة على ذلك كثيرة، بينها تفاهمات خروتشوف وآيزنهاور، ثمّ فورد وبريجينيف، ثمّ غورباتشوف وريغان، وصولاً إلى يلتسين وبوش الأب. وكلّها كانت قمماً استراتيجية تهدف إلى تثبيت الهدنة ومنع الانفجار والتوجّه نحو طاولة تقاسم النفوذ وتوزيع الحصص.

فلماذا تسمح الدولة العميقة في أميركا وروسيا لبايدن وبوتين بالخروج عن قواعد اللعبة؟

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…