لا تزال تتوالى فصولاً قضية طلب إدارة مجمع ABC الأشرفية من إحدى المؤسسات المُسْتأجِرَة لديها طرد موظفة من العمل بسبب حجابها فقط. وقد تحوّلت إلى مادّة دسمة للجدال الطائفي الضّاري على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر متوقّع في بلدٍ يتمّ تأويل كلّ شيء فيه على أسسٍ طائفية ومذهبية.
بيد أنّ الأمر أبعد من ذلك، فقضية هذه الشابّة المحجّبة ليست الأولى، وحتماً لن تكون الأخيرة، وهي جزء من عملية الفرز المجتمعي، والتنميط على أساس اللباس والشكل، وتعبِّر عن راديكاليّتين متعاكستين متخاصمتين: واحدة تحاول محاكاة الغرب المُصاب بـ”رهاب الحجاب” الذي يقف عائقاً في طريق التحضّر والمدنيّة، وأخرى مصابة بـ”رهاب السفور” ترى أنّ الحجاب فضيلة والسفور رذيلة، وكلتا الراديكاليّتين تأخذان بالشكل وتُفرِّغا المضمون.
كان بإمكان إدارة مجمّع ABC وأد القضية في مهدها، لكنّ بيانها التبريري يُشكّل وثيقة إدانة لها
حارس القيم العلمانيّة!
كان بإمكان إدارة مجمّع ABC وأد القضية في مهدها، لكنّ بيانها التبريري يُشكّل وثيقة إدانة لها. فقد تذرّعت إدارة المجمّع بأنّها تمنع وترفض المظاهر الدينية للموظّفين والباعة، في حين أنّ الحجاب هو أوّلاً وقبل أيّ معطى ديني هو حريّة شخصية تفرض القوانين المُطبّقة في بلدنا احترامها والالتزام بها. ومن جانب آخر فإنّ الإدارة نفسها دأبت على تزيين المجمّع بشجرة الميلاد كلّ سنة، وهو ما يجعل كلامها عن منع الرموز الدينية وحماية القيم العلمانية “صف حكي” كي لا نقول أكثر.
أضف إلى ذلك، هل تسري هذه القيم العلمانية التي تحدّثت عنها الإدارة على جميع فروع ABC؟ أم هناك فرع علماني، وآخر مسيحي، وثالث تعدّدي، ولكلّ فرع قيَمه الخاصّة حسب الشركاء أو ديانة أهل المنطقة أو الزبائن، على قاعدة أنّ “لكلّ مقام مقال”؟
وهل الحجاب مسموح في فرع فردان إكراماً للشريك التجاري السيد بهاء الحريري، علماً أنّ هذا الفرع اُفتُتِحَ عام 2017، وكان لممثّل الأخير السياسي صافي كالو كلمة تحدّث فيها عن دور الشيخ بهاء وإصراره على إقامة المشروع؟
ثمّ مَنْ عيّن إدارة مجمّع ABC لتكون حارسة القيم العلمانية؟ وكيف تُجيز لنفسها مخالفة القوانين والاعتداء على الحرّيّات الشخصية للأفراد. كان الأولى والأجدر بها أن تُبادر إلى الاعتذار عن هذه العنصرية الفجّة، لكنّنا في بلد تنخر فيه العنصرية، ويتفشّى فيه خطاب الكراهية.
رُهاب الحجاب
المضايقات التي تعاني منها المحجّبات، سواء في الوظائف العامّة أو الخاصّة، ليست أمراً جديداً أو طارئاً، فقد سبق أن حصلت حوادث مشابهة في السنوات الماضية.
في كانون الثاني عام 2018، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي رسالة من شابّة إلى قائد الجيش جوزيف عون، تُخبره فيها عمّا حصل معها أثناء توجّهها للتقدّم إلى وظيفة رتباء اختصاص في الجيش، وكيف طلب منها أحد العناصر نزْع حجابها والدخول لتقديم الطلب، لأنّه لا يمكنها إكمال طريقها بالحجاب، وذلك حسب الأوامر التي تلقّاها.
تفاعلت القضيّة، فأصدر رئيس الحكومة، الرئيس سعد الحريري، تعميماً إلى جميع الإدارات الرسمية، للتأكيد على منع ممارسة أيّ تمييز ضدّ النساء المحجّبات في الوظائف العامّة. وأكّدت وزيرة التنمية الإدارية، عناية عز الدين، في حديث لصحيفة “النهار”، أنّ “العشرات من الشابّات تقدّمن للوظيفة ورُفِضْنَ بسبب حجابهنّ، وهو أمر مرفوض، ولا يتماشى مع الدستور اللبناني، ويمسّ بحرّيّة المعتقد والحريّة الشخصية. فالمواطنون متساوون أمام القانون، ولا يمكن أنْ تُمنع شابّة من التقدّم لوظيفة فقط لأنّها محجّبة”. وأشارت عز الدين إلى “عشرات الرسائل التي وصلتها عن حالات اضطهاد حصلت بحقّ المحجّبات في وظائف رسمية أخرى في القضاء وغيره”.
بالمحصّلة، تشكّل ثقافة الكراهية جزءاً لا يتجزّأ من الثقافة المجتمعية السائدة في لبنان، التي تساهم في تعميق الانقسام بين اللبنانيين، وفرزهم إلى مجتمعات مُقفلة أو شعوب متعدّدة
هذا عدا عن التمييز العنصري الهائل ضدّ المحجّبات في الكثير من المنتجعات السياحية والشواطىء والمسابح، سواء كان أصحابها من المسلمين أو من باقي الطوائف والمِلل. هذه الظاهرة التي يصحّ وصفها بـ”رُهاب الحجاب والمحجّبات” باتت تشكّل أداة لنوع جديد من الفرز الطبقي، حيث يتمّ تقسيم المجتمع على أساس عنصري فاقع، بين طبقة مثقّفة ومتنوّرة لها حيّزها الخاص والمُقفل طبقيّاً وثقافيّاً، تفرض فيه شروطها الخاصة، التي تتعارض مع النظام والأعراف والتقاليد الراسخة، وبين أصحاب العباءة والحجاب، الذين يتمّ تصنيفهم في عداد المتخلّفين والظلاميّين.
خطاب الكراهية الوطنيّ
هذا التصنيف الهويّاتيّ موجود ومطبّق في الكثير من المؤسّسات الخاصّة في أغلب القطاعات. يبرز ذلك في القطاعات التي كانت تُعدّ لعقود خلت مفخرة لبنان، مثل قطاع المصارف والمستشفيات والجامعات والمدارس.
في المصارف يندر وجود موظفات محجّبات، ما عدا في وظيفة واحدة فقط هي وظيفة عاملة ترتيب المصرف (Housekeeping). ولا يسري ذلك على المصارف الإسلامية القليلة، حيث تنعكس الآية، وقد يكون الحجاب شرطاً للحصول على وظيفة فيها.
في المستشفيات، قلّما نجد موظّفة محجّبة في الطواقم الإدارية، وينعدم ذلك في المستشفيات التي تعود ملكيّتها لغير المسلمين. والعكس تماماً حاصل في المستشفيات الإسلامية. وعن وجود الكثير من الممرّضات واختصاصيّي الأشعّة والمختبر من المحجّبات في جميع المستشفيات، فهذا عائد إلى النقص الكبير في الكوادر الوظيفية، الذي يدفع المستشفيات ذات الثقافة المعادية للحجاب إلى غضّ النّظر عن توظيف المحجّبات بسبب الحاجة لا أكثر.
أمّا عن الجامعات والمعاهد والمدارس فحدّث ولا حرج. فلكلّ مؤسسة تربوية خطّها الثقافي الخاصّ. فالمدارس العلمانيّة، حتّى التي يكون أصحابها من المسلمين، تطرد المعلّمة التي تقرّر ارتداء الحجاب، وترفض توظيف المحجّبات إلا عند الضرورة القصوى. والأمر عينه يسري على المدارس الإرساليّة.
الأمر معكوس عند المدارس الإسلامية غير الدينية، فلا يمكن لإحدى مدارس حزب الله أن توظّف معلّمة أو إداريّة من غير حجاب. والحال نفسه في المدارس الإسلامية السنّيّة أيضاً، ويبرز ذلك في مدارس الجماعة الإسلامية، حيث الحجاب فرض إلزامي على كلّ المعلّمات والموظّفات. والطريف أنّ بعضاً منهنّ يضعن الحجاب قبل دخول حرم المدرسة وينزعنه عند خروجهنّ.
إقرأ أيضاً: من أرسل شباب طرابلس إلى الموت في العراق؟
فإذا كانت المؤسسات التربوية، التي تلعب دوراً بارزاً في تكوين الوعي لدى طلابها، تنتهج مثل هذه السلوكيّات العنصرية، سواء كان منع الحجاب أو فرضه، فمن الطبيعي أن نجد خطاب الكراهية والتقسيمات العمودية على أساس المظهر أو اللباس هما السائديْن في المجتمع.
بالمحصّلة، تشكّل ثقافة الكراهية جزءاً لا يتجزّأ من الثقافة المجتمعية السائدة في لبنان، التي تساهم في تعميق الانقسام بين اللبنانيين، وفرزهم إلى مجتمعات مُقفلة أو شعوب متعدّدة. وهذا ما يذكّرنا بالعنوان الشهير لكتاب المؤرّخ اللبناني كمال صليبي “لبنان بيت بمنازل كثيرة”. أمّا العيش المشترك والتعدّدية وغيرهما من المصطلحات، فهي من لزوم التكاذب الوطني.