أُصيبت الموازنة بصعقة كهربائية. فإدخال خطة إصلاح القطاع في صلب الموازنة يفجّر أرقامها، وأمّا إخراجها، كما يريد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فيجعلها عديمة المعنى والجدوى وفاقدة للصدقيّة أمام صندوق النقد الدولي.
بين الإرادتين نحا وزير المال يوسف خليل نحواً عصيّاً على التفسير، فهو أدرج في الملف الذي قدّمه إلى الحكومة سقفاً لسلفة الخزينة لـ “كهرباء لبنان”، لا يتجاوز 5,250 مليار ليرة، أي أقلّ من 240 مليون دولار، لكن من دون أن يدخلها في قائمة المصروفات، على اعتبار أنّها سلفة “قابلة” للردّ.
الرقم بحدّ ذاته يعني أنّ الدولة تخطّط، عن سابق إصرار، لعدم توفير الكهرباء، ولو لساعتين يوميّاً، لأنّ الرقم المرصود لا يكفي لشراء الفيول، خصوصاً مع تجاوز أسعار النفط تسعين دولاراً للبرميل، ولا يكفي للصيانة، والأحرى أنّه لا يكفي لشراء مولّد واحد، إلا إذا كان المقصود ضمناً رفع التعرفة على الفور.
لم يعد بناء الدولة للمعامل نموذجاً عمليّاً. هذه موضة انقرضت. حتى أغنى دول الخليج باتت تترك الأمر للقطاع الخاص
أمّا وزير الطاقة وليد فياض فيعوّل في خطته على مزيج من أربعة عناصر في المدى القصير:
1- استجرار الغاز من مصر لتوليد 450 ميغاوات من معمل دير عمار بتمويل من البنك الدولي.
2- الربط الكهربائي مع الأردن، لتوفير 250 ميغاوات، بتمويل من البنك الدولي أيضاً.
3- تجديد العقد مع العراق للاستمرار بالحصول على 80 ألف طن من زيت الوقود الثقيل (HSFO) شهريّاً، لاستبداله بكميّة أقلّ من الفيول أويل الملائم للمعامل اللبنانية.
4- رفع تعرفة الكهرباء على مراحل، لتوفير مورد إضافي لشراء الفيول، إلى جانب سلفة الخزينة.
يمكن أن توفّر العناصر الأربعة بعد تحقّقها مجتمعة ما لا يزيد على 14 ساعة تغذية يوميّاً، والتعويل هنا على إقناع الناس بأنّ فاتورةً أعلى لـ”كهرباء لبنان” مقابل هذه الساعات ستوفّر عليهم جزءاً من فاتورة المولّد، وفي هذا بعض المنطق. لكنّ دون ذلك عقبات كثيرة، ليس أقلّها ما هو سياسي – قانوني مع الأميركيين، وما هو تقني – مالي مع البنك الدولي، ربطاً بضرورة التقدّم في مسار الاتفاق على برنامج ذي صدقيّة للإصلاح المالي مع صندوق النقد الدولي، قبل الحصول على أيّ تمويل.
لكنّ هذا كلّه أشبه بالتسديد من بعيد في الوقت الضائع بعد انقضاء الوقت الأصلي لإصلاح القطاع، وهو بالتأكيد لا يكفي لحلّ الأزمة، بل للتخفيف منها.
التنظيم البديل
ما يحتاج إليه وليد فياض، وهو على الأرجح لا تنقصه الكفاءة مقارنة بجميع من تعاقبوا على الوزارة منذ ثلاثة عقود، هو الخروج تماماً من الفكرة العقيمة التي حكمت كلّ خطط الكهرباء من قبل وكانت السبب في فشلها، وهي أن تتولّى الدولة بناء معامل الكهرباء بنفسها (أو عبر عقد BOT)، ثمّ تختلف قوى السلطة على سمسراتها وتلزيماتها وتوزيعها الجغرافي.
تكون البداية بإعادة تنظيم سوق الكهرباء لتتولّى يد السوق الخفيّة إصلاح كلّ شيء من دون أن تنفق الدولة قرشاً واحداً من خزينتها. بل على العكس، يمكنها أن توفّر الكهرباء بساعات تغذية أكثر، وصولاً إلى 24/24، وأن تجني العوائد سريعاً في الوقت نفسه.
الحقيقة الواضحة أنّ لبنان أفقر دول العالم بالكهرباء ليس بسبب نقص الاستثمارات، سواء العامّة أو الخاصّة، ولا بسبب ضآلة الفواتير التي يدفعها المستهلك، بل بسبب سوء التنظيم. حتى السرقة وضعف الجباية يمكن معالجتهما بإعادة تنظيم القطاع.
ملخّص الأزمة أنّ الدولة تنتج الكهرباء من خلال مؤسسة “كهرباء لبنان” العديمة الكفاءة، وتبيعها إلى المستهلك، ولا تسمح للقطاع الخاص بالإنتاج. وبسبب غياب تراخيص الإنتاج، نشأ أكثر قطاعات الكهرباء فوضوية على وجه الكرة الأرضية، وأكثرها تلويثاً للبيئة، وأعلاها تكلفة. فبات في كلّ حيّ شركة صغيرة للكهرباء تنتج بنفسها وتوزّع بنفسها وتجبي بنفسها، وتنشر أسلاكها الفوضوية على شبكة أعمدة الدولة. وباتت على مساحة الوطن آلاف المولّدات، وآلاف شبكات التوزيع، وآلاف الجباة.
لا يمكن تخيّل فشل تنظيمي وانعدام للكفاءة أكثر من هذا.
في كل مرّة جرّبت الدولة الخروج من هذه الفوضى كانت الخطة تبدأ بإنشاء المعامل وتفعيل الجباية وإزالة التعدّيات، وفي كلّ مرّة تفشل للأسباب المعروفة نفسها.
سوق كهربائية حرّة
بالإمكان الآن البدء من مكان مختلف، هو تنظيم السوق، والمقصود بذلك وضع هيكل للسوق، يشمل الجهة الناظمة وشركات الإنتاج والنقل (transmission) والتوزيع، والشراء الموحّد للطاقة.
الهدف النهائي على المدى الأبعد هو الوصول إلى سوق حرّة تماماً للكهرباء، تتيح للعديد من المنتجين الوصول العادل والشفّاف إلى شبكة النقل، على أساس التنافس في خفض التكاليف، وتتيح وجود أكثر من شركة موزّعة، كما هو الحال في قطاع الاتصالات، وتتيح لمشتري الطاقة الكبار، مثل المصانع والشركات الكبرى، اختيار شركة إنتاج الكهرباء التي يودّون الشراء منها، وفقاً لما يُعرَض عليهم من أسعار!
لكن حتى الوصول إلى ذلك النموذج الأمثل للسوق الحرّة، يمكن البدء بخطوات يكون التفكير فيها خارج الصندوق. فليبدأ الأمر بتنظيم مرحليّ للسوق على النحو التالي:
1- تحويل مؤسسة كهرباء لبنان إلى شركة متخصّصة بالنقل فقط (transmission)، وفصل نشاطيْ الإنتاج والتوزيع في شركتين منفصلتين.
2- فتح باب تراخيص الإنتاج (من خلال الهيئة الناظمة للكهرباء) لكلّ من لديه طاقة إنتاجية قائمة (بحدّ أدنى معيّن)، وبالأخصّ، على سبيل المثال، “كهرباء زحلة” و”نور الفيحاء” التي ظلّت مشروعاً على الورق، على أن يكون ذلك لفترة زمنية محدّدة تراوح بين ثلاث وخمس سنوات، وحصراً من المولّدات الموجودة بالفعل داخل البلاد، ومن دون السماح باستيراد مولّدات جديدة.
3- إلزام جميع منتجي الكهرباء بوصل إنتاجهم بالشبكة الرئيسية المملوكة لـ “كهرباء لبنان”، كما فعلت “كهرباء زحلة”، ومنع أيّ توزيع مباشر للكهرباء على المستهلكين. وهذا يعني إزالة الأسلاك المعلّقة على أعمدة كهرباء الدولة من أصحاب المولّدات الخاصة، ومنع أيّ بيع للكهرباء إلا من خلال الشبكة الموحّدة.
4- تأسيس شركة لشراء الطاقة (principle buyer) مستقلّة تماماً من حيث الملكية والإدارة عن “كهرباء لبنان”، تكون لها مهمّتان:
الأولى: أن تكون المشتري الموحّد للطاقة الكهربائية من جميع المنتجين في الداخل والخارج، بدءاً بـ”كهرباء لبنان” و”كهرباء زحلة” و”نور الفيحاء” وغيرها من الشركات التي قد تتكوّن من تجمّع عدد من أصحاب المولّدات في منطقة معيّنة، ووصولاً إلى عقود استجرار الكهرباء من الأردن أو غيرها من الدول
والمهمّة الثانية: أن تتولّى بيع الكهرباء لشركات توزيع الكهرباء في المناطق، بحيث تصل الكهرباء بفواتير موحّدة، وتعرفة موحّدة للمواطنين في جميع المناطق اللبنانية، وفق نظام الشطور.
5- توحيد شبكات التوزيع والجباية، مع إشراك القطاع الخاص في هذا القطاع لإدخال العدّادات الذكية، بحيث تصبح شركات التوزيع هي البائع النهائي للكهرباء للمستهلكين، كما هو الحال مع شركتيْ الاتصالات.
الفكرة ببساطة أن هناك أزمة توليد طاقة في البلاد، وهناك في المقابل عدد هائل من المولدات الموجودة بالفعل، وإن تكن ملوثة ومحدودة الكفاءة ومرتفعة التكلفة.
فلا بدّ الاستفادة من هذه المولدات بطريقة منظمة إلى حين طرحت مناقصات التوليد وإحلال المعامل الحديثة والطاقة المتجددة بدلاً منها. ويكون ذلك عبر تجميع هذه المولدات بشركات متوسطة الحجم، بحد أدنى عشر مولدات أو أكثر، لتبيع الكهرباء إلى المشتري الأوحد في السوق. وهكذا يدفع المواطن فاتورة واحدة، كما هو الحال في زحلة.
يهدف هذا التنظيم المرحلي إلى الاستفادة من طاقات التوليد الحالية التي توفّرها المولّدات الخاصة مؤقّتاً، لكن بكفاءة أعلى نسبياً من الوضع الحالي، وذلك إلى حين بناء طاقات توليد كبيرة تحلّ بدلاً منها تدريجيّاً. وتبقى الدولة في قطاع الإنتاج حالياً على الأقل، لكن على قاعدة المنافسة لا الاحتكار، من خلال شركة إنتاج الكهرباء التي يفترض فصلها عن “كهرباء لبنان”، إلى أن يأتي يوم البحث بتخصيصها.
تجربة زحلة
ستكون النتيجة المباشرة لهذا التنظيم رفع كفاءة استخدام الطاقة الإنتاجية المتوافرة، وتوحيد الفواتير التي تصل إلى المستهلك، والاستفادة من ميزة “اقتصاد الحجم” لخفض التكاليف، وتحسين الجباية. وقد تحقّقت بعض هذه الميزات بالفعل في النموذج الذي استحدثته “كهرباء زحلة” على علّاته الكثيرة. إذ من الواضح أنّه وفّر ساعات تغذية أكثر بفاتورة إجمالية أقلّ.
يتيح هذا النموذج إدارة تسعير الكهرباء بشكل مركزي يتيح تحقيق التوازن المالي لـ”كهرباء لبنان”، مع خفض التكلفة الإجمالية على المستهلك (الناتجة من فاتورة كهرباء الدولة + فاتورة الاشتراك)، إلى أن يتمّ إدخال طاقات إنتاجية جديدة.
في المرحلة التالية، يتيح هذا التنظيم لشركة شراء الطاقة طرح مناقصات لشراء الكهرباء، سواء من خلال الطاقات المتجدّدة (الرياح مثل مشروع عكار المعطّل والطاقة الشمسية)، أو الطاقة التقليدية، من خلال نموذج الشراء من المنتجين المستقلّين (IPP)، بأقلّ تكلفة للكيلووات ساعة. ببساطة، يمكن للقطاع الخاص أن يبني المعامل أو ينشر الألواح الشمسية ومراوح طاقة الرياح من دون أن تتكلّف الدولة دولاراً واحداً، بل إنّها تحصّل الرسوم من الامتيازات، وتستفيد من تحوّل “كهرباء لبنان” إلى الربحية، بعد تحوّلها إلى شركة متخصّصة بالنقل فقط.
لم يعد بناء الدولة للمعامل نموذجاً عمليّاً. هذه موضة انقرضت. حتى أغنى دول الخليج باتت تترك الأمر للقطاع الخاص عبر عقود الـ IPP. هكذا حلّت الكويت أزمة الكهرباء قبل عشر سنوات، وهذا هو حال جميع مشاريع الإنتاج الجديدة (التقليدية والمتجدّدة) في السعودية والإمارات. هل تظنّ الدولة اللبنانية أنّها أكثر ذكاء أو ثراء من تلك الدول؟ وحتى مصر التي بنت ثلاثة معامل عملاقة بطاقة 14,400 ميغاوات بادرت إلى تخصيصها سريعاً.
إقرأ أيضاً: كيف أكل انخفاض الدولار 50% من قدرتكم الشرائية؟
لا يحتاج هذا المشروع التنظيمي إلى أكثر من سنة لإنجازه، وهو مطبّق بالفعل في كثير من الدول المتقدّمة، وبدأت بعض الدول العربية تطبيق جوانب منه. لكنّه يحتاج في لبنان إلى التخلّي عن شيء من الأنانيّة السياسية، وهذا أصعب ما في الأمر.
للبحث صلة..