إنّه عيد مار مارون. مناسبة تذكِّرنا بتميّز الموارنة في لبنان وفي العالم. تميّز الطائفة المارونية بهذا العيد سبقه تميّز مارون نفسه منذ ما يزيد على ألف وستمائة سنة. فهو وحده بين القدّيسين في المسيحيّة، القدماء والحديثين، مَن له طائفة على اسمه.
غريب هو مارون. لم يجُل في المدن والقرى وفي الولايات والإمبراطورية مبشّراً بيسوع المسيح كما فعل بولس الرسول. لكن له اليوم أتباعاً أصبحوا كنيسة تحمل اسمه. لم يترك إرثاً مكتوباً في اللاهوت المسيحي كما فعل مار أغوسطينوس ومار إفرام السرياني وغيرهما من آباء الكنيسة. لكن لكنيسته ليتورجيّتها وطقوسها وأعيادها وتقاليدها الخاصّة بها. لم يؤسّس رهبانية تحمل اسمه كما فعل مار مبارك في القرن السادس، أو مار فرنسيس الأسيزي في القرن الثالث عشر. على الرغم من ذلك في الطائفة المارونية عشرات الرهبانيات الرجاليّة والنسائيّة ومئات المكرّسات والمكرّسين.
الموارنة اليوم في أزمة وجوديّة غير مسبوقة في تاريخهم، كما لبنان
غريب هو مارون. لم يكن ملكاً على مملكة. ولا والياً على ولاية. ولا حاكماً لمدينة. على الرغم من ذلك له شعب، هو الشعب المارونيّ. عاش في الجبال على مثال شفيعه مارون، لكنّه لم يكن متجرّداً عن استيطانها مثله. فأصبحت له جغرافيا. تكاثر فيها ديموغرافيّاً ونشط فيها اقتصاديّاً. وعندما سنحت له الفرصة شارك في حكمها سياسيّاً. ونجح منذ مئة عام في سعيه إلى تأسيس “دولة لبنان الكبير” ورئاستها. فكان ولا يزال الرئيس المسيحي الوحيد في الشرق العربي ذي الغالبيّة المسلمة، حيث الشريعة الإسلامية هي مصدر كلّ تشريع. والإسلام هو دين الدولة ودين رئيس الدولة.
رئاسة الموارنة للبنان لم تميّز لبنان فقط. إنّما ميّزت لبنان بين دول المشرق العربي ومغربه. وفيما كانت الديكتاتوريّات العسكرية أو الملكيّات الوراثية تحكم دول الشرق الأوسط، تعاقَب على السلطة في لبنان 12 رئيساً مارونيّاً بعد استقلال الجمهورية. وفي حين كانت الأنظمة العربية استبداديّة مغلقة، كان النظام اللبناني، بقيادة الموارنة، ديموقراطياً منفتحاً على الشرق والغرب. وفي الوقت الذي اعتمدت غالبية دول المنطقة الأنظمة الاشتراكية، حافظ لبنان، برئاسة الموارنة، على الاقتصاد الليبرالي الحرّ. وفي وقت كان الحكم في بعض الدول العربية إسلاميّاً – مذهبيّاً، بحيث يُهمِّش المذهب الحاكم باقي المذاهب والأقلّيات الدينية والعرقية والقومية ويضطهدها، شاركت في حكم لبنان كلّ الأديان والمذاهب والطوائف المكوِّنة للمجتمع اللبناني. صيغة العيش المشترك هذه كانت سابقة وسبّاقة في هذا الشرق. تُعتمد اليوم في العديد من دوله. وفي هذه الصيغة وجود الموارنة ودورهم أساسيّان.
السؤال: أين الموارنة اليوم؟
الموارنة اليوم في أزمة وجوديّة غير مسبوقة في تاريخهم، كما لبنان.
1- ديموغرافياً يعانون من نزف بدأ منذ القرن التاسع عشر. كان قويّاً في “المجاعة الأولى” في بداية القرن العشرين وخلال الحرب الأهليّة (1975-1990) وبعدها. واليوم يعود قويّاً في “المجاعة الثانية”.
2- سياسياً، تراجع دورهم بشكل كبير في الجمهورية الثانية حتى كاد يصبح هامشيّاً في اللعبة السياسية الداخلية. الأسباب متعدّدة، منها:
– تغيّر الصلاحيّات في دستور الطائف.
– حملة التهميش التي تعرّضوا لها خلال 15 سنة وصاية سوريّة على البلاد.
– تبدُّل موازين القوى الإقليمية مع تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران ودعمها لشيعة لبنان وتسليحهم.
– عودة السُنّة بقوّة إلى المشهد السياسي مع رفيق الحريري بدعم عربي ودولي (فرنسي وأميركي) كبير.
– يبقى العامل الأهمّ في تراجع الدور السياسي للموارنة هو حروبهم الداخلية (كانت آخرها وأبرزها حرب الإلغاء 1990)، وانقساماتهم السياسية المستمرّة حتى اليوم.
حتّى الأمس القريب، حافظ الموارنة على دورهم في قطاعات أساسية اقتصادية وماليّة وتربوية واستشفائية. الانهيار الحاصل اليوم جعلهم يخسرون هذا الدور، الذي خسره لبنان كدولة.
يستمرّ الموارنة في خلافاتهم وانقساماتهم السياسية، خاصة أنّنا دخلنا في مواسم انتخابية نيابية ورئاسية على الرغم من احتمال عدم إجرائها
السؤال اليوم: ماذا يفعل الموارنة؟
يستمرّ الموارنة في خلافاتهم وانقساماتهم السياسية، خاصة أنّنا دخلنا في مواسم انتخابية نيابية ورئاسية (على الرغم من احتمال عدم إجرائها). يتنافسون على بقايا شعب ماروني في هذا البلد، وعلى جماعات منه منتشرة في بلدان الاغتراب، غالبيّتها نسِيت لبنان ويئِست منهم. ويتصارعون على رئاسة “فتات” جمهوريّة. ربّما أخطر ما في انقسام الموارنة هو اختلافهم على مفهوم “الجمهورية القويّة” وعلى “لبنان القويّ”، لا بل شرود قسم منهم، بتحالفهم مع حزب الله، إلى منطق مختلف لقوّة الدولة، وهو منطق غريب عن لبنان وعن منطق الدولة في المطلق. فلبنان دولة، برهنت الأحداث على مدى قرن، أنّها لا تقوم إلا على التوازن بين مكوّناتها. في حين أنّ “ظاهرة” حزب الله كسرت هذا التوازن بقوّة السلاح.
لبنان دولة نشأت وتطوّرت وازدهرت في إطار علاقة حسن جوار مع المحيط العربي الذي تنتمي إليه سياسياً (جامعة الدول العربية) وثقافياً وحضارياً (من خلال التاريخ المشترك واللغة المشتركة). في حين أنّ حزب الله سلخ لبنان عن هذا المحيط ووضعه في أحضان إيران التي تخوض الصراعات والحروب في العالم العربي وضدّه. وأحد عناصر قوّة لبنان هو انفتاحه على العالم والتزامه قرارات الشرعية الدولية. في حين أنّ وجود ميليشيا حزب الله يخالف منطق الدولة ويجعل لبنان متمرّداً على القرارات الدولية، ومعادياً للمجتمع الدولي. وهذا ما يزيد من سرعة الانهيار في لبنان.
لا يتحمّل الموارنة، حلفاء حزب الله، كلّ المسؤولية. لكنّهم مسؤولون عمّا وصلت إليه قوّة الحزب في الدولة وعلى الدولة بعد 2005.
وماذا يمكن للموارنة أن يفعلوا للحدّ من الخسارة، خسارة الطائفة وخسارة لبنان؟
1- خلق مساحة حوار تضمّ الموارنة، أحزاباً وتيّارات وشخصيّات، تكون منصّة ينطلقون منها للحوار مع باقي المكوّنات اللبنانية لإنقاذ البلاد والعباد. فقد حاولت بكركي أن تخلق هذه المساحة بدعوتها ما عُرِفَ بـ”الأقطاب الأربعة”، وقد انبثقت عنها مقولة “الرئيس القويّ”. لن نخوض في صوابيّة اختصار الحوار على الأربعة أو عدمه. فهو لم يستمرّ في كلّ الأحوال. الحوار الثنائي بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ هو أيضاً سقط، لا بل فشل فشلاً ذريعاً. بعده زادت الخلافات المارونية – المارونية على خلفيّة اعتبار أحزاب وشخصيّات سياسية ذاك الحوار إلغائياً لهم. من الصعب، لا بل من المستحيل، خلق مساحة الحوار هذه في المواسم الانتخابية. لكن لا بدّ من الدعوة إليها بعد الانتخابات في حال حصلت أو لم تحصل.
2- الإقلاع عن التحالفات الثنائية والعودة إلى منطق الدولة القويّة بمؤسّساتها الشرعية وبحسن علاقاتها مع المحيط العربي وبالتزامها قرارات الشرعيّة الدولية.
3- الالتفاف من جديد حول مرجعيّتهم الروحية، خاصة أنّها تحمل اليوم مشروعاً يمكن، إذا ما تحقّق، أن يكون إنقاذيّاً للبنان. فمشروع الحياد بإمكانه أن يكون مشروعاً مارونيّاً للبنان الجديد، ومشروعاً لبنانيّاً للمنطقة والعالم.
إقرأ أيضاً: “بعبدا” تفتّش عن موارنة.. في بعبدا
هناك قول سرياني مأثور عن الموارنة: “مُرونُيي لو مْطَقْسوني”، ويعني “الموارنة لا ينتظمون”.
المطلوب اليوم كسر هذه المقولة، وأن ينتظم الموارنة في حوار فيما بينهم لإنقاذ ما تبقّى من مارونية وموارنة في لبنان، ومع الآخرين لإنقاذ ما تبقّى من دولة في لبنان.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة