منذ لحظة إقفال صناديق الاقتراع النيابية فُتِح باب رئاسة الجمهورية على مصراعيه. كلّ ما سبق من تأليف لوائح وتركيب تحالفات وخطابات جيّاشة وتحريضيّة شكّل جزءاً من مشروع “العبور” نحو قصر بعبدا، وقبل ذلك مشروع تأليف حكومة وإدارة “برلمان الثورة”.
لا يتوقّف الأمر فقط على القادة الموارنة المعنيّين باستحقاق 31 تشرين الأول والمرشّحين لـ”خلافة” ميشال عون، بل دخل حزب الله كما الجيش “شركاء” مضاربين في التأثير على المسار المباشر لانتخابات رئاسة الجمهورية من خلال “الصناديق”.
يبدو أنّ على حزب الله التعاطي منذ الآن وصاعداً مع “حالة مسيحية” مُستجدّة بعدما “أزاح” سمير جعجع النائب جبران باسيل من مكانه بما هو رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية وجلس على مقعده
الجيش: أنا هنا
يدرك العارفون أنّ الجيش، وعلى الرغم من وطأة الأزمة على عسكره، “نزل” بكلّ ثقله على الأرض في استعراض قوة لم تشهده أيّ انتخابات نيابية سابقاً. وكان “الترويج” الإعلامي لدور الجيش على حساب الأجهزة الأخرى بالغ الوضوح في رسالة سياسية تسبق بدء العدّ العكسي للتوافق على “مرشّح الرئاسة”.
“قوّم” حزب الله ناسه من القبور ليشاركوا في الاقتراع. توصيف مجازي يعكس حالة الاستنفار التي واكبت خوض الحزب انتخابات “حرب تموز السياسية”، وتخلّلتها نوبات غضب من قبل “جماعته” في مناطق نفوذه بوجه “مقتحمي” عقر داره من مرشّحين أو مندوبين أو مؤيّدي لوائح أخرى.
هو واقع عَكَس حجم قلق الضاحية من “تنفيس” كتلة حزب الله وحلفائه “عشيّة” استحقاقات داهمة تحت وطأة الأرقام التي كانت تتوافر تباعاً، حتى قبل 15 أيار، إلى “غرفة عمليات” الحزب وتفيد بتمدّد كتلة القوات اللبنانية على حساب التيار الوطني الحر واحتمال حصول خروقات مفاجئة لقوى التغيير من بيروت إلى الجنوب مروراً بالإقليم، وخسارة محور الممانعة حلفاء “استراتيجيين” لهم رمزيّتهم السياسية. هذا ما حصل فعلاً. والعرس “الأكبر” كان لبعض شخصيّات المعارضة من دون منازع.
فاجعة جزّين
حتّى حليف حزب الله الأول جبران باسيل اختبر لحظات عصيبة وقاسية قبل إعلان النتائج النهائية، إذ خرج من “المعركة الكونية” ضدّه، كما صوّرها، بحاصل واحد وأصوات تفضيلية في دائرة الشمال الثالثة أبقت على نيابته بنحو 8 آلاف صوت تفضيلي بعد تراجع عن أرقام 2018 حين حلّ أوّلاً بـ”سكور” بلغ 12,269 صوتاً “تفضيليّاً”. أمّا في بعض الدوائر فيمكن وصف ما حصل بـ”الفاجعة”، وجزّين كانت نموذجاً.
يبدو أنّ على حزب الله التعاطي منذ الآن وصاعداً مع “حالة مسيحية” مُستجدّة بعدما “أزاح” سمير جعجع النائب جبران باسيل من مكانه بما هو رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية وجلس على مقعده. في المقابل كان جمهور المقاومة يجاهر بأنّ الحزب رَبح العدد الأكبر من الأصوات التفضيلية مقابل كلّ الأحزاب الأخرى بنسبة تتجاوز عام 2018.
كَمَنْ يتفرّج على “ماتش فوتبول” أدلى سعد الحريري تويتريّاً بدلوه متحدّثاً عن “منعطف جديد بعد دخول دم جديد إلى الحياة السياسية”، مثنياً على “صوابيّة قرارنا بالانسحاب الذي هزّ هياكل الخلل السياسي”
خاسرون ورابحون
استطراداً كيف سيُصرَف هذا الواقع المسيحي الانقلابي في تأليف الحكومات والتعيينات ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الجمهورية؟
أكثر مراكز استطلاع الرأي دقّةً، وأكثرها حِرَفيةً، لم تكن تتوقّع هذا الكمّ من المفاجآت داخل الصناديق. ثمّة خاسرون ورابحون أفرزهم خليط من عوامل عدّة: من المال الانتخابي “الغزير”، إلى الوقاحة التي وَصمَت تشكيل بعض لوائح السلطة والتقاء قوى السلطة المعارِضة مع قوى التغيير المنبثقة من 17 تشرين على هدف “هزم” حزب الله وحلفائه، إلى الدعم الخارجي ماليّاً ولوجستياً لبعض الأحزاب والمرشّحين، والأهمّ ترجمة النقمة الشعبية، وإن بنسبة اقتراع متواضعة، عبر “قبع” بعض رموز السلطة من مقاعدهم. فيما يبقى قانون الانتخاب نفسه “عجيبة” من عجائب السلطة بفعل نتائجه غير المنطقية والظالمة في كثير من الأحيان.
لا شكّ أنّ “دَرس” الجنوب، المنطقة المقفلة حزبياً وشيعياً، كان بالغ التعبير والأهمّ على مستوى كلّ لبنان، وتحديداً دائرة الجنوب الثالثة التي سجّلت خرقاً تاريخياً غير مسبوق بفوز المرشّح عن المقعد الأرثوذكسي الدكتور الياس جرادي على لائحة “معاً نحو التغيير” وإسقاط نائب الحزب السوري القومي الاجتماعي أسعد حردان. تلاه في ساعات الفرز الاخيرة الخرق الذي سجّله على لائحة المعارضة نفسها المرشح عن المقعد الدرزي فراس حمدان ما أدى إلى سقوط مروان خير الدين. أنّه النموذج عن قوى التغيير التي حصدت 12 مقعداً في البرلمان الجديد.
من سعد إلى حزب الله… وجبران
كَمَنْ يتفرّج على “ماتش فوتبول” أدلى سعد الحريري تويتريّاً بدلوه متحدّثاً عن “منعطف جديد بعد دخول دم جديد إلى الحياة السياسية”، مثنياً على “صوابيّة قرارنا بالانسحاب الذي هزّ هياكل الخلل السياسي”.
بدا التعليق تعبيراً عن حالة انفصال كاملة عن تصريحات المتحدّث شبه الأوحد باسم تيار المستقبل في الآونة الأخيرة، منسّق الإعلام، حين اعتبر أنّ “الانتخابات نافذة للثنائي يطلّ منها على شرعيّة لم تتكرّس له بعد، ونحن في تيار المستقبل لسنا مشاركين في الجريمة”.
بالمحصّلة، “مَحَا” الحريري كلام تيّاره عن الخريطة السياسية تاركاً لخصومه وحلفائه حريّة “التصرّف بالتركة”. سيكون غياب الدور السنّيّ مدوّياً في الاستحقاقات المقبلة على مستوى تأليف الحكومة الجديدة وانتخابات رئاسة الجمهورية، بعدما عمّقت نتائج 2022 بقعة انكفاء سعد الحريري إن كان لناحية التجاوب الخجول مع الدعوة الضمنية للمقاطعة أو لناحية إقصاء الصناديق لبعض الأسماء التي تدور في فلكه وتوزّع المقاعد السنّيّة “حصصاً” على بعض “محاور” الطائفة.
بدت النتائج موجعة على مستوى المستقبل: صيدا وبيروت وعكار وطرابلس والمنية وزحلة والإقليم للمرّة الأولى منذ بدء مرحلة “الحريرية السياسية” في التسعينيّات خارج سيطرة “الحريريّين” وتيار المستقبل تماماً.
الصفعة الكبرى
لكنّ الصفعة على وجه فريق الثامن من آذار والتيار الوطني الحر “علّمت” أكثر على اعتبار أنّ الحريري اختار قدَرَه بنفسه، تحت الضغط أو من دونه، بينما خاض هذا الفريق معركة مصير وخرج منها خاسراً جزءاً من “جيشه” داخل مجلس النواب الجديد. إذ خسر جبران باسيل أكثريّته المسيحية بتراجع كتلته النيابية من 29 نائباً في انتخابات 2018 إلى 19 نائباً، بعدما ترك نوابٌ طاولة تكتّل لبنان القوي، ليخرج أخيراً من معركة الصناديق بأقلّ من 18 نائباً.
إقرأ أيضاً: دائرة الرؤساء: لا مفاجآت… والصلاةُ في الصناديق
في المقابل حققت القوات تقدّماً وقفزت من 14 (بعد استقالة النائب سبزار المعلوف ومغادرة جان طالوزيان الكتلة) إلى نحو 20 نائباً على شكل انتصار غير متوقع ربما لمعراب نفسها خصوصاً في مناطق نفوذ التيار البرتقالي: “تحليق” ملحم الرياشي في المتن بـ سكور هو الأعلى إضافة إلى الفوز بمقعد ماروني لرازي الحاج، انتزاع مقعدين من التيار الوطني الحر في جزين عبر فوز غادة أيوب (الأولى برقم الأصوات التفضيلية) وسعيد الاسمر، وضع اليد على المقعد الماروني الثالث في بعبدا، الحفاظ على كوتا نائبيها في كسروان شوقي الدكاش وزياد حواط، التمدّد في بيروت الأولى عبر الفوز بحاصلين، وفوز مرشح القوات الماروني في طرابلس الياس الخوري، وفي عكار مرشحها عن المقعد الارثوذكسي وسام منصور، وفي دائرة الشمال الثالثة قشّت القوات ثلاثة مقاعد مع تسجيل خرق لوليام طوق في بشري، وفي عاليه فازت بالمقعد الارثوذكسي العائد لنزيه متى. وفي زحلة ثلاثة مقاعد جورج عقيص (كاثوليكي) والياس اسطفان (أرثوذكسي) وبلال الحشيمي (سنّي). وفي الهرمل ربحت القوات معركتها الأم بوجه الجميع بالحفاظ على مقعد النائب أنطوان الحبشي الذي إضافة إلى الأصوات المسيحية التي ناهزت الـ 13 الف صوت نال جزءاً من الأصوات السنّية والشيعية.