طرح اجتماع النوّاب السُنّة في دار الفتوى الإشكاليّة المزمنة في صناعة السياسة في لبنان.
كيانٌ أُعطي مجده لسيّد بكركي، ولم يكن لينال استقلاله وتُرسّم حدوده القائمة اليوم لولا همّة البطريرك الياس حويّك وبرنامجه السياسي، ولم تكن صورة إعلان تأسيسه لتكتمل إلا بجنرال فرنسيّ يتوسّط البطريرك والمفتي، كيف للسياسة فيه أن تُصنع من دون أحدهما؟
لكنّ صورة اجتماع نوّاب من طائفة واحدة في دار المرجعيّة الدينية يُعيد التذكير بأنّ الطائفة هي مفردة العمل السياسي، لا المواطَنة، وبأنّ العقد الاجتماعي المؤسِّس هو بين طوائف غير متساوية في الوزن والدور. ولأنّها غير متساوية فإنّ الأوزان تظلّ محلّ صراع دائم، فيه ما فيه من استجلاب الدعم من القوى الخارجية ومحاولات التسلّح. وفي كلّ تسوية يُهيّأ لأهل حلّها وعقدها أنّها ترسي توزيعاً نهائيّاً للأوزان ينهي الصراع إلى حين. هذا مغزى مقولة “وقف العدّ” التي جرت على لسان رفيق الحريري في الطائف، وتحوّلت إلى قاعدة فوق- دستورية، لكنّها أثبتت في الواقع الملموس أنّ صلاحيّتها انتهت أو تكاد.
المواطنون السُنّة في حالٍ من التأزّم لم تصل إليه أيّة طائفة أخرى في التاريخ الحديث، ربّما لأنّ الانهيار فيها شامل
هذا النظام أعمق من أن يغيّره بعض الحالمين أو الرومنسيّين. من السذاجة تصوير الطائفية بأنّها لعبة السياسيين والأحزاب، أو أنّ غايتها الصراع على السلطة والنفوذ بين حفنة من الأوليغارشيا. إنّها النظام الذي يرعى الحقوق والواجبات لأفراد الجماعات الطائفية. هو نظام سيّئ ومنحاز للأزلام على حساب الكفاءات ولا يوفّر العدالة الاجتماعية، لكنّه النظام الموجود، ومن دونه لا عقد اجتماعياً ولا حقوق ولا واجبات تنظّم علاقة “المواطن” بالدولة، ولا شبكة حماية اجتماعية. من دونه لا أمل لأيّ بروفسور أن ينافس بسّام بدران على رئاسة الجامعة اللبنانية، أو لأيّ مهندس أن ينافس عماد كريدية في “أوجيرو”، أو لأيّ محاسب أن ينافس شربل قرداحي في شركة “تاتش” خارج هذا النظام. لا يمكن للضابط أن يضمن لنفسه تشكيلاً مريحاً، ولا للمريض أن يجد سريراً في المستشفى، ولا لأيّة قرية أن تحظى بطريق ممهّدة أو ببئر لمياه الشفة أو بأعمدة إنارة أو بمبنى لمدرسة رسمية.
يقوم النظام على ركيزتين في بنية كلّ طائفة: مؤسّسة سياسية ترعى حقوق الجماعة داخل الدولة، ومؤسّسة أهليّة أو دينية توفّر شبكة الحماية الاجتماعية، من تعليم وصحّة وإعانات للأسر الأكثر فقراً. بدأ هذا النموذج عند الموارنة في القرن التاسع عشر، ثمّ نسخه السُنّة بتأسيس “المقاصد”، ثمّ أسّس الشيعة نموذجهم المختلف في السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي.
المواطنون السُنّة في حالٍ من التأزّم لم تصل إليه أيّة طائفة أخرى في التاريخ الحديث، ربّما لأنّ الانهيار فيها شامل. انهارت الدولة وانفرطت المؤسّسة السياسية الحريريّة في وقت واحد، فيما المؤسّسات الأهليّة مترهّلة ومتروكة أو غارقة في الديون، فصار المجتمع مكشوفاً في العراء. مستوى الفقر في طرابلس وأقضية الشمال لا تكفي قوارب الموت للتعبير عنه. وما خفي ليس بقليل في العاصمة والحزام الثاني من ضواحيها وقرى الإقليم وصيدا والبقاعين الأوسط والغربي وبعلبك وعرسال.
الوضع مختلف عن الطوائف الأخرى الكبرى. في الحالة المارونيّة تُمارَس السياسة بعيداً عن المؤسّسات التعليمية والاجتماعية والصحّية التابعة، في الغالب، للمؤسّسة الدينية. أمّا عند الشيعة، فتتولّى المؤسّسة الحزبية ومكاتب المراجع الأمن الاجتماعي والاقتصادي لبيئتها.
عند السُنّة، انكمش دور مؤسّسات “الطائفة” التي وفّرت شبكة الحماية الاجتماعية في السبعينيّات والثمانينيّات. لم يعُد هناك ما يوازي المدارس الكاثوليكية أو مدارس المهدي والمصطفى والمبرّات. فجمعيّة المقاصد انحسرت إلى حدّ بعيد في العاصمة بعدما خسرت الكثير من أوقافها ومواردها الماليّة وغرقت في الديون، ولا يملأ الفراغ سوى بعض الجمعيّات الدينية والاجتماعية.
يمكن لإبراهيم منيمنة وحليمة القعقور وأسامة سعد أن ينظِمُوا معلّقات من النثر الرومنسي في العلمانية واللاطائفية، لكنّ أيّاً منهم لا يستطيع أن يصوغ جملة سياسية واحدة مفيدة تقدّم البديل لبيئته في هذا النظام. ليس لدى منظّري العلمنة ما يقدّمونه لإصلاح التعليم العامّ وجعله شبكة أمان بديلة. وليس أيٌّ منهم قادراً على استنقاذ كرسي واحد في قاعة من قاعات الجامعة اللبنانية من “فجع” أحزاب السلطة.
وفي السياسة، لم يحن الوقت بعد أن تجد الطائفة طريقاً في غياب الحريريّة التي وفّرت الأمان السياسي، على الأقلّ، في التسعينيّات. استعجل السُنّة الحلم قبل أوانه ببديل “مدنيّ” عندما انسحب الحريري الابن من السياسة، لكنّ ليلة الصيف تنتهي حين تُطبخ صفقة الرئاسة من دونهم، ويصبحون خارج الدولة وخارج الحماية الاجتماعية.
هل يمكن للقاء النوّاب السُنّة في دار الفتوى أن يقدّم وعداً بديلاً؟
لم تكن الدار مرجعية سياسية على نمط بكركي سوى في عهد المفتي الشهيد حسن خالد، ولا سيّما بعد الاجتياح الإسرائيلي والخروج الفلسطيني وابتعاد صائب بك سلام. التفّت بيروت حول المفتي حين غاب عنها وجه الزعيم، وظلّت كذلك حتى استشهاده في شوارعها، فكان الفراغ المزدوج إلى أن جاء رفيق الحريري فملأ الدنيا وشغل الناس.
لم يبدِ مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان يوماً رغبة بلعب دور سياسي فوق العادة، لا في وجود سعد الحريري ولا بعد غيابه. بروفايله المعتدل أبعد ما يكون عن التحشيد وابتغاء هالة الزعيم. لكنّه أدرك أنّ دار الفتوى تمثّل في الظرف الراهن الخيمة الوحيدة التي يمكن لشتات السُنّة أن يجتمعوا تحتها للقول إنّهم موجودون. لكنّ مشكلة هؤلاء هي أنّ الاجتماع بحدّ ذاته هو فكرتهم الوحيدة.
إقرأ أيضاً: حارة حريك ولقاء دار الفتوى: المطلوب خطوات عمليّة
لا يكفي أن يتّفق النواب السُنّة على مرشّح للرئاسة، ولا أن يوحّدوا دفتر المواصفات والشروط لدعمه، ما لم تكن لديهم فكرة لإعادة تأسيس “المؤسّسة – الطائفة”، أو بديل عنها.
لقد وجدوا الخيمة بانتظار أن تولد الفكرة.