كان من الطبيعي لدى وصولي إلى فرنسا أن أشتري الخردل. فهو أساسيّ في المطبخ الفرنسي الذي أحبّ أطباقه وأهوى إعداده. بحثت عنه على رفوف المحالّ. لم أجده. إنّه مفقود! سألت: لماذا؟ فكان الجواب: “إنّها الحرب في أوكرانيا”. تذكّرت أنّي قرأت عن الموضوع. ولكنّ الانهيار في لبنان وأزمات الدواء المفقود، والكهرباء المقطوعة، وطوابير المحطات،… أنستني “حبّة الخردل” المفقودة في فرنسا.
الفرنسيّ إنسان متذمّر باستمرار، باللبناني “نقّيق”، وعلى كلّ شيء. إلّا أنّ تلك العاملة الفرنسية لم ترفق إجابتها بأيّ علامة تذمّر. فالفرنسيون صُدِموا بالغزو الروسي لأوكرانيا. ويؤيّدون سياسات رئيسهم وحكومتهم الذين يخوضون الحرب اليوم في أوكرانيا كي لا يخوضوها غداً في بلاد أقرب إليهم، أو ربّما على أرضهم! ولا يعترضون على دفع قسم من كلفة هذه الحرب من خلال المساعدات العسكرية والماليّة التي ترسلها دولهم إلى كييف. ويبدون أنّهم مستعدّون لتحمّل سياسات التقشّف في استهلاك الغاز وارتفاع فاتورة الكهرباء.
أقرّت غالبيّة دول الاتّحاد خفض درجة حرارة تدفئة المنازل إلى 19 درجة مئوية خلال الشتاء المقبل
شتاء بارد في أوروبا
لقد أصبح معروفاً أنّ إحدى أبرز نتائج الحرب الروسيّة على أوكرانيا هي أزمة الطاقة العالميّة، وبخاصّة الأوروبيّة. وهي برزت منذ إطلاق أوّل صاروخ روسيّ ضدّ أوكرانيا. وأصبح معروفاً أيضاً أنّ روسيا تملك أكبر احتياط من الغاز (حوالي 20% من الاحتياط العالمي). وهي أكبر مصدّر للغاز إلى أوروبا (155 مليار متر مكعّب سنويّاً) ولو بنسب متفاوتة: دول أوروبا الشرقيّة تستورد منها كامل حاجاتها من الغاز، ودول وسط أوروبا تستورد تقريباً نصف حاجتها من هذه المادّة من روسيا، وتنخفض هذه النسبة في دول أوروبا الغربيّة.
بدأت الحرب الأوكرانية مع اقتراب نهاية فصل الشتاء وصقيعه (24 شباط). لم يدرك الأوروبيون حينها أنّ الدفء الذي تنعّموا به في الشتاء الفائت (كما في السنوات السابقة)، سيفقدونه هذا الشتاء. فمنذ أسابيع بدأت الحكومات الأوروبيّة تتّخذ الإجراءات للحدّ من استهلاك الغاز، وهو ما سيجعل الشتاء المقبل بارداً جدّاً على الأوروبيين. تأتي هذه الإجراءات في إطار خطّة اتّفقت عليها دول الاتّحاد الأوروبي مجتمعةً لإيقاف استيرادها للغاز الروسيّ لسببين:
1- سحب هذه الورقة الاستراتيجية من يد فلاديمير بوتين.
2- حرمانه من عائدات الغاز لتمويل حربه. فأوروبا، باستيرادها الغاز الروسي، تدفع كلفة الحرب في أوكرانيا مرّتين، مرّة بتحويلها مليارات الدولارات إلى موسكو لتسديد فاتورة الغاز الذي تستورده منها (100 مليار دولار عام 2021)، ومرّة ثانية بإرسالها الأسلحة والصواريخ والدعم الماليّ لأوكرانيا.
أعلنت المفوضيّة الأوروبية خطّتها التي تهدف إلى خفض استيراد الغاز من روسيا بنسبة 65% مع نهاية العام الحالي، وبنسبة 100% بحلول العام 2027
الخطّة الأوروبيّة للاستغناء عن الغاز الروسيّ
في 20 تموز أعلنت المفوضيّة الأوروبية خطّتها التي تهدف إلى خفض استيراد الغاز من روسيا بنسبة 65% مع نهاية العام الحالي، وبنسبة 100% بحلول العام 2027. وترتكز هذه الخطّة على ثلاثة محاور:
1- خفض نسبة استهلاك الطاقة (الغاز بدرجة أولى): ستبدأ الخطّة بخفض استهلاك الغاز بنسبة 15% بين الأوّل من آب 2022 و31 آذار 2023. وبالفعل أقرّت غالبيّة دول الاتّحاد خفض درجة حرارة تدفئة المنازل إلى 19 درجة مئوية خلال الشتاء المقبل. ونظّمت حملات توعية للمواطنين لترشيد استهلاك الكهرباء، حتى وصل الأمر ببعض الحكومات إلى تحديد وقت الحمّام بالدقائق لمواطنيهم (5 دقائق في الدانمارك)! وقطعت بعض الأندية الألمانيّة المياه الساخنة عن الحمّامات، وستخفض الإنارة ليلاً على الطرقات…
2- الإسراع في التحوّل إلى الطاقات النظيفة: تحضّ الخطّة الحكومات على زيادة استثماراتها في مجال إنتاج الكهرباء على الطاقة الشمسيّة والطاقة الهوائية وغيرهما. وتعمل دول أوروبيّة على زيادة قدرات مفاعلاتها النوويّة في إنتاج الطاقة الكهربائية. في فرنسا، أعلنت شركة كهرباء فرنسا عن انتهاء أعمال الصيانة في 28 مفاعلاً نوويّاً (خارج الخدمة)، وعودتها إلى العمل في 25 كانون الأول المقبل. وحدّدت موعد شباط 2023 لانتهاء أعمال الصيانة في خمسة مفاعلات أخرى. بذلك تعود كلّ المفاعلات النوويّة الفرنسيّة (وعددها 56) إلى العمل لإنتاج الكهرباء، وهو ما سيساهم في خفض استهلاك الغاز.
3- البحث عن مصادر أخرى للطاقة (غاز ونفط وفحم حجريّ): حدّدت الخطّة مجموعة تدابير لتوفير مصادر غاز بديلة، منها زيادة استيراد الغاز المُسال من الولايات المتحدة الأميركية وكندا والغاز الطبيعي من النروج، وزيادة التعاون في مجال استيراد الغاز من أذربيجان، وعقد اتفاقات مع كلّ من مصر وإسرائيل لاستيراد الغاز المُسال، واستعادة المفاوضات مع الجزائر التي تملك احتياط غاز مهمّاً (وهي كانت أبرز أهداف زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة للجزائر)، وزيادة التعاون في مجال استيراد الغاز المُسال مع كلّ من قطر وأستراليا (التي تفوّقت على قطر في صناعة الغاز المُسال في العام 2021). وأقرّت الخطّة رفع الاحتياطات الوطنيّة من الغاز في كلّ الدول الأوروبيّة إلى نسبة 80% من قدرة منشآتها الاستيعابية، وذلك حتى الأوّل من تشرين الثاني 2022، وأن تصل هذه النسبة إلى 90% في السنوات المقبلة قبل حلول فصل الشتاء.
إقرأ أيضاً: الغاز: أنابيب ثابتة وخرائط متغيّرة..
بالأمس عاد الخردل إلى رفوف المحالّ في فرنسا. لم يكن فقدانه بسبب الحرب في أوكرانيا، إنّما بسبب الجفاف الذي ضرب كندا، أكبر مصدّر لـ “حبّة الخردل” إلى فرنسا. السؤال الأهمّ: هل ينجح القادة الأوروبيون في حلّ أزمة الغاز الروسيّ؟ وهل تستمرّ الشعوب الأوروبيّة في تحمّل برد الشتاء وارتفاع فاتورة الكهرباء وسياسات التقشّف في استهلاك الطاقة؟ من المبكر الإجابة.