بات بنيامين نتانياهو أشبه بلاعب قمار عديم الحظّ. كلّما خسر جولة، لعب أخرى متوقّعاً الربح. وبعد كلّ جولة فاشلة تتراكم الخسائر. اختار بعد عملية “طوفان الاقصى” أن يلعب لعبة الحرب المجنونة والمدمّرة. حقّق أرقاماً قياسية في عمليات الإبادة والجرائم ضدّ الإنسانية. لكنّه لم يحقّق أيّ مكسب سياسي سوى الخراب، ولم يعد أمامه سوى إطالة أمد الحرب بجولات جديدة وفتح المعركة تلو المعركة بلا أيّ إنجاز سوى سفك الدم.
نتانياهو يتوعّد.. ولكن
توعّد بـ”اجتثاث حماس” وسحق سلطتها والقضاء على حكمها وبنيتها وقيادتها. لكنّ الحركة لا تزال باقية وقادتها يفرضون شروطهم ويواصلون الصمود والقتال. لا يزال المقاومون الغزّيون الذين قال إنّه حشرهم في أقصى جنوب القطاع في رفح، يسيطرون على المخيّمات المدمّرة، ويتواصلون من الجنوب مع شمال القطاع ووسطه عبر مئات من الكيلومترات من الأنفاق التي تقرّ إسرائيل بأنّها تحتاج إلى سنوات لتدميرها إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. حتى الآن يخرج رجال المقاومة من فتحات الممرّات التحت أرضيّة مثل الأشباح، ويتجوّلون في مدينة غزة ومخيّمات جباليا والمغازي وبقيّة المناطق “المحتلّة”. يقاتلون ويوزّعون المؤن على المدنيين ويواصلون إدارة شؤون القطاع أو ما تبقّى منه.
توعّد أيضاً بإعادة الرهائن بالقوّة. لكن لم يفلح في إعادة رهينة واحدة بعملية ناجحة أو العثور على مكان احتجاز أيّ منهم، ولا يوجد أيّ إثبات على أنّ الضغط العسكري قد يفي بالغرض. ولم يعد من سبيل لإعادتهم سوى التوصّل إلى صفقة تبادل تتضمّن تسوية سياسية. وسيكون ذلك سابقة في تاريخ صفقات التبادل التي غابت عنها كلّها الاشتراطات السياسية.
الرئيس الأميركي جو بايدن الذي سخّر كلّ القدرات الأميركية خدمة لنتانياهو في حربه، وطوّع كلّ أركان إدارته من أجل مصلحة إسرائيل
الإسرائيليون الذين وحّدهم “طوفان الأقصى”، أعاد فشل تحقيق أهداف الحرب انقسامهم. كيان الاحتلال منقسم على ذاته بين من يريد وقف الحرب ومن يريد مواصلتها إلى النهاية، وبين من يريد إعادة الرهائن بأيّ ثمن وبين من يريد فرض إعادتهم بالقوّة. يشتدّ الخلاف ويكبر بين نتانياهو ووزير حربه يوآف غالانت، وبينه وبين عضوَي مجلس الحرب بيني غانتس وغادي آيزنكوت، وبينه وبين أعضاء حكومته إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وبينه وبين المعارض يائير لابيد.
هل يمكن إنقاذ إسرائيل؟
الرئيس الأميركي جو بايدن الذي سخّر كلّ القدرات الأميركية خدمة لنتانياهو في حربه، وطوّع كلّ أركان إدارته من أجل مصلحة إسرائيل، يُجبه بالصدّ من المقامر في كلّ شيء: صفقة تبادل الأسرى، توسيع النطاق الإقليمي للحرب، اليوم التالي للحرب، إدارة قطاع غزة مستقبلاً، مصير السلطة الفلسطينية، تطوير عملية السلام من أجل التطبيع.
أميركا تحاول إنقاذ إسرائيل بالسلم بعدما فشلت في إنقاذها بالحرب عبر إعادة تسيير قطار التطبيع بعد ربطه بالقضية الفلسطينية، والسعي إلى تصميم سلطة فلسطينية تتماشى مع هذه المشاريع لتولّي إدارة غزة. لكنّ المقامر نتانياهو يصرّ على مواصلة الحرب أملاً بكسب كلّ شيء، إدراكاً منه أنّه إذا لم يحقّق نصراً عسكرياً كبيراً يطوّب به نفسه “ملكاً” و”حامياً” لإسرائيل، فإنّ وقف الحرب اليوم سيقود حتماً إلى إسرائيل بلا نتانياهو، وسيجرّه الفشل، معطوفاً على فساده السابق، إلى خلف القضبان.
لم يبقَ أمام المقامر سوى ورقته الأخيرة، تدمير رفح بعدما أجهز على كلّ مدن القطاع وقراه والمخيّمات. معركة رفح قد لا تحقّق أهدافه السياسية ولا تعيد الرهائن، ولن تقضي بالضرورة على قيادة “حماس”، وقد تؤدّي إلى كارثة إنسانية لا مثيل لها، لكنّها لن تقتلع جذور الفلسطينيين من أرضهم، وستطيل أمد الحرب التي وحدها تسمح له بالهروب من نتائج لجان التحقيق والمحاكمة الجنائية التي تنتظره. ووحدها أيضاً تفسح المجال أمام التملّص من المشروع الأميركي المخالف لرؤيته القاضية بإبقاء الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية والقطاع منعاً لأيّ قيام محتمل لدولة فلسطينية. والأهمّ من ذلك أنّ استمرار الحرب يمنحه المزيد من الوقت وصولاً إلى الانتخابات الأميركية المرتقبة على أمل أن تحمل شريكه في الرؤية التدميرية للقضية الفلسطينية دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
لم يبقَ أمام المقامر سوى ورقته الأخيرة، تدمير رفح بعدما أجهز على كلّ مدن القطاع وقراه والمخيّمات
رفح: اختبار للجميع
في رفح، يتجمّع اليوم نحو مليون ونصف مليون فلسطيني، ثلاثة أرباعهم من الذين هجروا بيوتهم من مختلف أرجاء القطاع بحثاً عن مأوى وملاذ آمن. رفح هي المكان الذي تتجمّع فيه المآلات المأسوية لطاحونة الدمار الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وليس لقاطنيها أيّ خيار آخر بعدما دُمّرت بيوتهم وسُدّت كلّ السبل أمامهم.
إذا ما أصرّ نتانياهو على خياره الدموي في رفح، فسيجري اختبار الخطوط الحمر التي رسمتها مصر والأردن والدول العربية في حال صار خيار الترانسفير والتهجير القسري واقعاً قائماً. هناك ستُفحص جدّية الوعود الأميركية والغربية بفتح مسار جديد لعملية سياسية تقود إلى حلّ الدولتين، ومدى جدّية واشنطن في تخفيف وطأة الردّ الإسرائيلي “المفرط” على المدنيين الفلسطينيين وتثبيت التهدئة. واشنطن تملك القدرة الكافية للضغط على الإسرائيليين ودفعهم إلى وضع نهاية للحرب. ولكنّ الدوافع السياسية التي تقف خلف الدعم الكامل والغطاء الدولي الذي توفّره واشنطن للحرب الإسرائيلية لم تعد مفهومة حتى لقطاعات كبيرة من قادة الرأي الأميركيين. اشتراط أميركا أن تتجنّب معركة رفح إزهاق أرواح المدنيين في غزة بدا وكأنّه ضوء أخضر للعملية!
إقرأ أيضاً: تفهّم أميركيّ لاقتحام رفح… والخلاف على المدنيّين
قد يكون التهويل الإسرائيلي بتوسيع العمليات العسكرية والموافقة الضمنية الأميركية عليه ورقة ضغط في المفاوضات الجارية لعقد صفقة الأسرى وتجريد “حماس” من أيّ مكسب سياسي فيها. لكن ماذا لو لم يتوصّل نتانياهو إلى صفقة لا تعطيه نصراً كاملاً ولا تكون رافعة لشعبيّته المتدهورة، كما يطمح لإنقاذ نفسه، فهل يفتح أبواباً جديدة لمواصلة الحرب؟ وهل يتوّج العدوان بنكبة رهيبة على الحدود الجنوبية مع مصر؟