للمرّة الأولى، لم توفّر الدول العربية عامّة، ودول مجلس التعاون الخليجي خاصّة، أيّة بيئة حاضنة للتحرّك العسكري الذي يستهدف مواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني أو للفصائل الموالية لطهران في المنطقة. والأمر جدير بالملاحظة مقارنة بتجارب عسكرية دولية شهدتها المنطقة لطالما وجدت شراكات واسعة أو محدودة لدى العالم العربي. والأمر يعبّر عن مقاربة جديدة لدول المنطقة لأمنها، على نحو خلافيّ مع خطط عواصم كبرى حيال الشرق الأوسط.
لا طمأنينة عربيّة
لم تشارك دول البحر الأحمر في تحالف “حارس الازدهار” الذي أنشأته الولايات المتحدة في كانون الأول الماضي لحماية الملاحة الدولية في بحر يطلّ عليه اليمن والسعودية ومصر والسودان والأردن والصومال ودول أخرى. ولم تصفّق أيّة دولة عربية لقيام الولايات المتحدة وبريطانيا بشنّ هجمات ضدّ مواقع الحوثيين داخل اليمن منذ 11 كانون الثاني الماضي. وبدا أنّ الجهد العسكري الأميركي ضدّ مواقع “فصائل طهران” في سوريا والعراق وذلك الأميركي البريطاني في اليمن متجرّدين من أيّ تغطية إقليمية. تقدُّم الخيار العسكري الغربي معزولاً لم تمنحه الدول العربية شرعية ما كتلك التي وجدها في الحروب التي عرفتها المنطقة منذ بداية التسعينيات على الأقلّ.
على الرغم من الموقف العربي العام، والخليجي الخاص، المنتقد لسلوك إيران المزعزع للاستقرار ورعاية طهران لظاهرة وسلوك الميليشيات، فإنّ أجواء القاهرة كما أجواء الخليج متبرّمة من قرارات تقودها الولايات المتحدة لا تأخذ بالاعتبار هواجس ومصالح المنطقة، لا سيما لجهة سبل تعزيز الأمن في برّ المنطقة وبحارها. وفيما تتضرّر دول البحر الأحمر مباشرة من الأزمة الراهنة وتفقد قناة السويس في مصر 45 في المئة من مداخيلها، فإنّ “العسكرة” التي لجأت إليها واشنطن قبل أن تلتحق بها “قوّة أوروبية” وبلدان أخرى بشكل مستقلّ، تصبّ الزيت على النار وتهدّد بدفع الإقليم إلى فوضى أمنيّة من دون أن توفّر هجمات لندن وواشنطن أيّ أفق يمكن الركون إليه لإعادة السلم والاستقرار إلى البحر الأحمر وممرّاته.
يلاحظ مراقبون في السعودية أنّ استراتيجية الغرب حيال اليمن ما زالت على حالها منذ أن رفض دعم معركة الشرعية والتحالف العربي لتحرير الحُديدة وفرض اتفاق استوكهولم عام 2018
اتّفاق بكين صامد
ما زال “اتفاق بكين” بين الرياض وطهران المبرَم في 10 آذار 2023 صامداً يحظى باحترام كلّ أطرافه. غير أنّ عدم مواكبة السعودية ودول الخليج للمنحى العسكريتاري المستجدّ لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ضدّ مصالح إيران في سوريا والعراق واليمن، لا يعود فقط إلى التمسّك بمسار الانفراج المبدئي (والنظري عمليّاً) في علاقات الخليج ومصر مع إيران، بل إلى طبيعة الاستراتيجية الأميركية العسكرية التي قد تساهم في تقوية نفوذ طهران في المنطقة لا تقويضه. وتتساءل مصادر خليجية عمّا إذا كانت واشنطن تتقصّد من خلال حدود الضربات العسكرية لفصائل طهران وما واكبها من شكوك بشأن تواطؤ أميركي إيراني لإخراجها، ناهيك من تأكيد على عدم اللجوء إلى أدوات رادعة لإيران نفسها، تأهيل إيران لشراكة كبرى في مسارات السلم والحرب في الشرق الأوسط.
يذهب مصدر في أحد مراكز البحث المرموقة في لندن بعيداً في تسليط المجهر على واقع أنّ إيران وإسرائيل والولايات المتحدة يملكون تحديد راهن ومستقبل الشرق الأوسط. ويرى أنّ طهران استطاعت من خلال وكلائها تسجيل تقدّم لافت في موازين القوى، وأنّها من لبنان إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق باتت الطرف الندّ للولايات المتحدة. وفيما تتجنّب الولايات المتحدة الصدام المباشر مع إيران تحت عنوان “عدم توسيع نطاق حرب غزّة”، يرى المصدر أنّ طهران ربحت رهانها من خلال عنوان مضادّ بسيط عنوانه التلويح المستمرّ بـ “القدرة على توسيع الحرب”. وإن تخاطر إيران وجوديّاً في هذا الخيار، غير أنّها تقرأ جيّداً عجز الغرب عن خوض حرب جديدة، وتعوّل كثيراً على أنّ أيّ “تبريد” للتوتّر في المنطقة يحتاج إلى مفاتيح تحتكر امتلاكها.
تستنتج الرياض وحكومة اليمن الشرعية تخبّطاً أميركياً خبيثاً في ملفّ اليمن. فأبجديّات أمن الملاحة الدولية لا توفّرها أجواء الحرب التي بات البحر الأحمر مسرحاً لها، ولا يمكن لقصف البنى التحتية للحوثيين بهذين المستوى والإيقاع أن يردع الجماعة عن تهديد السفن العابرة قبالة شواطئ اليمن. وفي هذا يقول السفير اليمنيّ لدى بريطانيا، ياسين نعمان، إنّ “الضربات ليست كافية” لتأمين الملاحة الدولية، وإنّ الحلّ يكمن في “استعادة مؤسّسات الدولة الشرعية”. وتبرّر أوساط الرياض عدم الثقّة باستراتيجيات واشنطن بإغفال إدارة بايدن المغرض لحقيقة أنّ ما يهدّد أمن الملاحة ليس الحوثيين بل أزمة اليمن، وأنّ غياب الدولة يتيح لظاهرة الميليشيا في اليمن أن تروج وتزدهر وتتسيّد.
المواقف الأميركيّة مؤقّتة
يلاحظ مراقبون في السعودية أنّ استراتيجية الغرب حيال اليمن ما زالت على حالها منذ أن رفض دعم معركة الشرعية والتحالف العربي لتحرير الحُديدة وفرض اتفاق استوكهولم عام 2018. يستنتجون أيضاً أنّ عودة إدارة بايدن عن قرار سابق وإدراج الحوثيين على لوائح الإرهاب هما إجراء تكتيكي على علاقة بأزمة الممرّات ويزول، وفق وعود واشنطن، إذا ما زالت الأزمة. بالمقابل يعتبر مصدر يمنيّ أنّ إحجام واشنطن عن فتح “ملفّ اليمن” كسبيل وحيد لحلّ أزمة البحر الأحمر نهائياً، ليس صدفة ويفضح حرصاً على الحفاظ على نفوذ إيران في اليمن والبحر المهدّد لمنطقة الخليج، إضافة إلى أنّ عسكرة البحر واستهداف الحوثيين يساهمان في تعطيل مسار تسوية كانت السعودية ترعاها من دون أن تكون وراء هذا التعطيل استراتيجية حلّ بديلة.
واللبس ينسحب أيضاً على التعامل الموضعي مع ظواهر الميليشيات في العراق وسوريا من دون الاعتراف بالبيئة الحاضنة التي يوفّرها التصدّع السياسي داخل هذه البلدان لجهة غياب التسويات وضعف الدول المركزية، وهو ما يعني أنّ واشنطن، من خلال الضربات العقابيّة، تتعامل مع “أمر واقع” فرضته إيران ولا يمكن معالجته إلا من خلال إيران. وتنفي وجهات نظر متشائمة المعادلة التي تقول إنّ إيران تؤجّج الفوضى والعبث لتكون شريكاً في الحلّ، وترى أنّ عقائد طهران تقوم على الاستفادة القصوى من اللاحلّ وجعل إرادات الميليشيات قاعدةً وقانوناً وليس ظاهرة عرضية قابلة للزوال. حتى واشنطن تتعامل مع الأمر بصفته قدراً تتفاوض معه وتنشد الاتفاق معه، ويكفي تأمّل جدل التفاوض بين بغداد وواشنطن بشأن الانسحاب الأميركي من العراق لنستنتج بعناية يوميّات رقص إيراني أميركي مشترك.
إقرأ أيضاً: بعد أكثر من قرن على بلفور… “وعد كاميرون”
يصحّ هنا تأمّل ما ذهب إليه معلّق أميركي بالتذكير بأنّ للمواطنين الأميركيين الحقّ دستورياً في تشكيل ميليشيات مسلّحة، وما يعنيه ذلك من ثقافة سياسية في تعامل دبلوماسية واشنطن مع ظاهرة ميليشيات إيران في العالم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@