وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم “الأونروا” هي صمام الأمان وصلب القرار الدولي الرقم 194 الخاصّ بعودة مَن هجّرتهم العصابات الصهيونية من ديارهم في حيفا ويافا واللدّ وصفد وعسقلان والجليل والنقب وطبريا يوم النكبة عام 1948.
نصّ القرار 194 على الآتي: “يجب أن يسمح للّاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم بأن يفعلوا ذلك في أقرب وقت ممكن عمليّاً، وأن يُدفع تعويض عن ممتلكات من يختارون عدم العودة وعن الخسائر أو الأضرار التي تلحق بالممتلكات، بموجب مبادئ القانون الدولي أو الإنصاف الدولي، ينبغي أن تنفّذها الحكومات أو السلطات المسؤولة”.
لذلك “الأونروا” الخارجة من متن القرار 194 هي الدليل المادّي الذي يمثّل حقوق اللاجئين قانونياً وتاريخياً ومعنوياً. وهي أيضاً الشاهد الدوليّ على الجرائم التي ارتُكبت في حقّهم. وتفكيك هذه الوكالة يعني تصفية الشاهد والتخلّص منه
أهمّية هذا القرار أنّه أوّلاً اعتبر الفلسطينيين شعباً طُرد من أرضه، وله الحقّ في العودة كشعب وليس كمجموعة أفراد متضرّرين من الحروب مثل حالات كثيرة أخرى. وهذا الاعتبار فريد من نوعه في تاريخ الأمم المتحدة، ولا يوجد له نظير في أيّ حالة أخرى. وثانياً أنّه وضع آليّة متكاملة لعودة اللاجئين من عناصر عدّة:
ـ أكّد حقّهم في العودة إذا اختاروا ذلك، في أوّل فرصة ممكنة، وكذلك تعويضهم عن جميع خسائرهم، كلٌّ حسب مقدار خسائره، سواء عاد أم لم يعد.
– إنشاء مؤسّسة دولية لإغاثتهم من حيث الطعام والصحّة والتعليم والمسكن إلى أن تتمّ عودتهم، وهذه المؤسّسة أُسّست في العام التالي للنكبة وصار اسمها “الأونروا”.
لذلك “الأونروا” الخارجة من متن القرار 194 هي الدليل المادّي الذي يمثّل حقوق اللاجئين قانونياً وتاريخياً ومعنوياً. وهي أيضاً الشاهد الدوليّ على الجرائم التي ارتُكبت في حقّهم. وتفكيك هذه الوكالة يعني تصفية الشاهد والتخلّص منه.
محاولات اغتيال القرار 194 والأونروا
إسرائيل التي رأت في تطبيق حقّ العودة نقيضاً لوجودها، جعلت من القرار الدولي ووكالة الغوث شغلها الشاغل والهدفين الأوّلين للتصفية، وإذا ما خنقت “الأونروا” مهّدت الطريق لتصفية حقّ العودة ليفقد الفلسطينيين أحد أبرز مقوّمات القوّة الديمغرافية.
لم تكتفِ اسرائيل باغتيال أحد أبرز صانعي القرار 194 الوسيط الدولي الكونت السويدي فولك برنادوت، بل لم توفّر حكوماتها المتعاقبة، سواء أكان من اليمين أو اليسار، أيّ فرصة للإجهاز على الوكالة بشتّى الوسائل والتضييق على كلّ من تولّى الأمانة العامّة للمنظمة الدولية، ولا سيما منهم من أصرّ على التذكير بحقوق الفلسطينيين، وآخرهم أنطونيو غوتيريش.
حاولت إسرائيل مراراً الضغط على الدول المانحة لوقف المساعدات للّاجئين، وفشلت. ثمّ سعت إلى تحويل المساعدات من “الأونروا” إلى السلطة الفلسطينية من أجل تصفية الوكالة والإيحاء بأنّ الصراع بين الاحتلال والفلسطينيين يدور حول جوهر وجود دولة إسرائيل، وليس على الانسحاب من الأراضي المحتلّة، لكنّها فشلت أيضاً. جرّبت اتّهام الوكالة بأنّها منظّمة فلسطينية معادية لإسرائيل، لكنّها لم تنجح وبقيت الوكالة قائمة على الرغم من تراجع خدماتها وتآكل صدقيّتها.
كلّما طال الوقت، زاد القلق الإسرائيلي من الوكالة ودورها، ذلك أنّ مهمّتها رعاية ليس فقط اللاجئين الذين ما زالوا على قيد الحياة بعد النكبة، ومن فقدوا منازلهم ووسائل العيش بعد حرب سنة 1967، لكن أيضاً، وهذه هي النقطة الحاسمة، أحفادهم جيلاً بعد جيل. لذا بات لزاماً عليها بدلاً من مواجهة مشكلة لاجئين يعدّون بعشرات الآلاف، أن تتصدّى الآن لقضيّة أكثر من سبعة ملايين لاجىء ينتظرون عبثاً العودة إلى بيوتهم وبيوت أجدادهم الممنوعة عليهم.
إسرائيل التي رأت في تطبيق حقّ العودة نقيضاً لوجودها، جعلت من القرار الدولي ووكالة الغوث شغلها الشاغل والهدفين الأوّلين للتصفية، وإذا ما خنقت “الأونروا” مهّدت الطريق لتصفية حقّ العودة ليفقد الفلسطينيين أحد أبرز مقوّمات القوّة الديمغرافية
ترامب يحيي آمال “الاغتيال”
وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017، أحيا آمال حكومة بنيامين نتانياهو بإمكان التخلّص من “الأونروا” ودمج مؤسّساتها ضمن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتالياً إسقاط صفة الوضع الخاصّ عن اللاجئين الفلسطينيين، وجعلهم كأيّ لاجئين آخرين في العالم. وخلافاً للمفوضية التي تنزع صفة اللاجئ عن الشخص في حال حصوله على جنسية البلد المضيف، فإنّ “الأونروا” لا تنزع صفة اللاجئ عن الفلسطيني أو الفلسطينية إلا عند وفاتهما.
بالفعل كان لنتانياهو ما أراد، عندما اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها خلافاً للقرارات الدولية، ثمّ قراره بوقف الدعم المالي الأميركي للوكالة لإضعافها، وهو القرار الذي فاقمته إدارة الرئيس جو بايدن وسط الجنون الإسرائيلي الذي أعقب عملية “طوفان الأقصى” في قطاع غزة.
علّقت الولايات المتحدة تمويلها للوكالة بذريعة أنّ 12 موظّفاً فلسطينيّاً تتّهمهم إسرائيل بالمشاركة في العملية التي نفّذتها “كتائب القسام” يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023). وحذا حذوها رهط كبير من الدول الغربية المانحة للمساعدات، وهو ما جعل أمر صمود الوكالة ومواصلة تقديم خدماتها الإنسانية والتعليمية والمعيشية للّاجئين في مهبّ الريح، محقّقين بذلك لإسرائيل أكثر بكثير ممّا كانت تتمنّى وتتوقّع.
هذه الدول التي سارعت إلى تقديم هديّة سياسية لا تقدّر بثمن للدولة العبرية قبل صدور نتائج التحقيق في التهمة الإسرائيلية للموظّفين الإسرائيليين، كانت قد تجاهلت عمداً أنباء مؤكّدة عن قتل الإسرائيليين لأكثر من 150 موظّفاً فلسطينياً في الوكالة في حربهم على غزة وتدمير عشرات المدارس ومراكز الإيواء والخدمات الصحّية.
إقرأ أيضاً: إيران معادية لفلسطين… وللعرب
ماسحوا أحذية إسرائيل..
هل صدر القرار الدولي الجديد بتدمير الوكالة وتفكيكها تمهيداً لتصفية حقّ العودة؟ هل هو الردّ الغربي على أمر محكمة العدل الدولية “بقبول” وقوع إبادة جماعية في غزة، ودعوتها إسرائيل إلى ضمان تقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في القطاع؟ هل الخطط الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية تجاوزت ما يجري على الأرض من إبادة للفلسطينيين في غزة وخنقهم في الضفة الغربية، لتُستكمل في الدوائر الدولية وسط صمت مريب عربي وغربي و”مقاوم”؟
ما كانت تقوم به “الأونروا” من خدمات ليس إلا تكلفة منخفضة الثمن يدفعها المجتمع الدولي مقابل تقاعسه عن إيجاد حلّ سياسي للّاجئين الفلسطينيين. ووقف هذه الخدمات مؤذٍ، وقد يكون مدمّراً لعشرات الآلاف من العائلات المشرّدة والمدمّرة ويمسّ أبرز مقوّمات حياتهم. لكنّ الأكثر تدميراً وأذيّةً ذاك الدجال الكبير المسمّى مجتمعاً دولياً، الذي يبيع في النهار شعارات عن الإنسانية والعدالة ويعمل في الخفاء ماسح أحذية لدى إسرائيل.