منذ نشوء نظام الثورة الإسلامية في إيران، عانت الإدارات الأميركية المتلاحقة بسبب عدم إيجاد سياسة فاعلة في التعاطي مع التحدّيات الإيرانية، حتى أصبحت إيران تشكّل مادّة سجال داخلي وموضوعاً خلافيّاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
الرؤساء الأميركيون منذ الرئيس الأسبق جيمي كارتر وأزمة الرهائن وصولاً إلى جو بايدن الذي يواجه اليوم أزمة في ردع وكلاء إيران من الاستمرار بالاعتداء على أهداف عسكرية أميركية في سوريا والعراق تضامناً مع غزة، واجهوا أزمات مع طهران كانت دائماً تنتهي عند التوقّف عن الدخول في مواجهة شاملة.
سياسة العقوبات الاقتصادية ومواجهة وكلاء إيران في المنطقة وصلتا إلى حائط مسدود بعدما حقّقت إيران نقاطاً استراتيجيّة مهمّة في المنطقة. وهو ما يشير إلى أنّ المواجهة مع طهران أصبحت شبه حتمية، إلا إذا قرّرت الولايات المتحدة الانسحاب من العراق وسوريا.
عدم توجيه ضربة عسكرية مباشرة وموجعة إلى طهران والاكتفاء بضربات موضعية تقف عند حدّ المواجهة العسكرية الواسعة، شجّعا إيران على المضيّ بانتهاج سياسة القضم وتقويض حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وترهيبهم. قدرة إيران على استيعاب الضربات الموضعية والانحناء أمام التهديدات الجديدة، نجحت حتى اليوم في تجنّب ضربة أميركية حاسمة في الداخل الإيراني، لتعود إلى الانتقام والفوز بالنقاط حين تسنح لها الظروف الدولية والإقليمية.
بعد سقوط قتلى في صفوف القوات الأميركية في الاعتداء على موقع “برج 22” في الأردن، بعثت إيران رسائل إلى الولايات المتحدة مفادها أنّها لا تريد التصعيد وأنّها غير مسؤولة عن هجمات وكلائها في العراق وسوريا، فاكتفى الردّ الأميركي بضرب أهداف وكلاء إيران في العراق وسوريا بالتزامن مع الإعلان عن أنّ واشنطن لا ترغب في حرب واسعة مع طهران.
الولايات المتحدة في سنة انتخابات وتريد استيعاب غضب شعوب المنطقة نتيجة دعمها لإسرائيل في حرب غزة، وهو ما يدفع إدارة الرئيس بايدن إلى تجنّب المواجهة الشاملة مع إيران
لبنان الثمانينات…
الوضع في العراق اليوم يشبه لبنان في منتصف الثمانينيّات. فبعد الاعتداءات المتكرّرة على السفارة الأميركية وتفجير مقرّ المارينز في بيروت، جاء الردّ الأميركي متواضعاً بضرب أهداف للحزب في بعلبك. وتزامناً مع الاعتداء على الأهداف الأميركية في بيروت بدأت عمليّات أخذ رهائن أميركيين من قبل مجموعات مموّلة ومدعومة من إيران اتّضح فيما بعد أنّها كانت نواة الحزب وهو ما سرّع بالانسحاب الأميركي من لبنان وسقوط لبنان في المحور الإيراني السوري.
آنذاك كان الاتحاد السوفيتي لا يزال قائماً، وكان الوجود السوري فاعلاً في بيروت، وهو ما زاد الأمور تعقيداً وجعل الوضع وتحديد الأهداف أكثر صعوبة. إيران تنتهج أسلوباً مماثلاً لتلك الحقبة في لبنان. فالعراق اليوم يشهد انقسامات سياسية ومذهبية وحكومة مركزية تعاني من تحدّي الميليشيات ووكلاء إيران لها. هناك الكثير من الأهداف الأميركية لا تزال موجودة في العراق، وهو ما يعطي طهران أوراق ضغط على واشنطن إذا ما قرّرت توسيع المواجهة. أطراف المواجهة في العراق أوضح ممّا كان عليه الوضع في لبنان في الثمانينيّات. فهي محصورة بين الولايات المتحدة وإيران:
– فإمّا يعمد الطرفان إلى تسوية شاملة.
– أو الذهاب إلى مواجهة واسعة تجنّبها الطرفان لعقود.
– أو الإبقاء على التسوية غير المعلنة بينهما بعد الفشل في التوصّل إلى اتفاق حول الملفّ النووي الإيراني، وهي “لا اتفاق لا أزمة”.
إقرأ أيضاً: إيران: خدعة الاعتدال مقابل التشدّد
الولايات المتحدة في سنة انتخابات وتريد استيعاب غضب شعوب المنطقة نتيجة دعمها لإسرائيل في حرب غزة، وهو ما يدفع إدارة الرئيس بايدن إلى تجنّب المواجهة الشاملة مع إيران، لكن من دون الظهور بموقف الرئيس الضعيف. وإيران التي سجّلت نقاطاً استراتيجيّة نتيجة دعمها لحماس وتلويحها بأوراق نفوذها في المنطقة قد تسعى إلى تثبيت إنجازاتها وعدم التصعيد. قد تكون المواجهة الشاملة بين الولايات المتحدة وإيران مؤجّلة في الوقت الحاضر.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@