“طوفان الأقصى”.. خسائر إيران

مدة القراءة 6 د


بعد ساعات من حدث 7 تشرين الأول الماضي ظهر أنّ إيران فقدت زمام المبادرة على نحو ينال من قدراتها السابقة على إدارة الصراعات في المنطقة. ثبت سريعاً أنّ قيادة حماس في قطاع غزة (يحيى السنوار ومحمد ضيف وغيرهما) لم تبلغ “محور المقاومة” بزعامة الجمهورية الإسلامية بالعملية ولا حتى بالتخطيط المسبق الطويل الأجل لها. وإذا ما صحّت أنباء تحدّثت عن أنّ السنوار طلب من القيادي صالح العاروري إبلاغ الأمين العام للحزب بالعملية قبل وقت قليل من التنفيذ، فذلك كان من قبيل “اللياقة” أكثر من كونه تنسيقاً موثوقاً مع واحد من أركان “المحور” الأساسيّين.

باغت “طوفان الأقصى” طهران وأربك كلّ أجنداتها، وخصوصاً في إدارة الصراع مع الولايات المتحدة. سارعت إيران إلى تظهير حقيقة عدم علمها بهجوم “القسّام” إلى درجة تقصّد تسريب معلومات إلى “رويترز” بشأن قيام المرشد علي خامنئي بـ”تأنيب” إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، أثناء لقائه به في طهران في أوائل تشرين الثاني الماضي، لعدم قيام الحركة بوضع إيران “في الصورة”، وإبلاغ ضيفه أنّ إيران لن تدخل الحرب بالنيابة عن حماس.

فقدت إيران الورقة الفلسطينية وورقة غزّة بالذات. بات هذا الملفّ يناقَش في الرياض التي انعقدت في ضيافتها قمّة استثنائية عربية إسلامية في 11 تشرين الثاني الماضي، ويتمّ التداول بشأن مآلات غزّة وفلسطين في القاهرة والدوحة وحتى في أنقرة

أجندة إيرانية مرتجلة

في سلوك قيادة “القسام” وعتب المرشد ما نال من “قدسيّة” قيادة طهران لفصائل المقاومة في قطاع غزّة، بحيث ذهب السنوار وصحبه إلى تقديم الحسابات الفلسطينية على تلك الإيرانية. والأدهى أنّ “حدث غزّة” فرض على طهران ارتجال أجندة تلتحق بزلزال “طوفان الأقصى” فيما كانت فصائل “المحور” تلتحق دائماً بحسابات القيادة في إيران وتوجّهاتها. بدا أيضاً أنّ طهران متلعثمة في كيفية مقاربة الحدث ما بين دعوات الهدوء والتهدئة التي راح يبشّر بها وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، والتحذير من التصعيد، وسلوك تصعيدي محسوب لكلّ فصائل “المحور”.

إذا ما خسرت إيران في استباق الحدث بالعلم به وضبط إيقاعه والاستثمار في مفاعيله، فإنّها عندما لجأت إلى ما تجيده من تحريك لأذرعها في المنطقة، وذهبت بعيداً في الإفراج عن قوّة هذه الأذرع، فقدت سمة الغموض الذي كانت تسوّق من خلاله إمبراطوريّتها الميليشياوية في المنطقة. والخطيئة أنّ طهران التي لطالما عرفت ضبط مستويات التحرّك الناري لفصائلها، مسّت محرّمات استدرَجت، على نحو غير مسبوق، ردّاً ناريّاً مضادّاً هائلاً ومباشراً فضح محدودية قوة هذه الأذرع ووهن التعويل عليها.

خسرت إيران تفهّم الرئيس الأميركي جو بايدن لـ “المظلومية” الإيرانية. كان الرجل في مطلع عهده قد انقلب على قرارات سلفه دونالد ترامب وراح، من خلال مبعوثه الإيراني الهوى روبرت مالي، يباشر التفاوض الطويل النفس مع إيران لإصلاح “خطيئة” ترامب بالانسحاب من الاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني عام 2018 بعد 3 سنوات من إبرامه في عهد الرئيس باراك أوباما. وكان بايدن ذهب أكثر من ذلك في اليمن حين انقلب أيضاً على قرار سلفه وأزال جماعة الحوثي عن لوائح الإرهاب. وانتهج بايدن في هذا السياق موقفاً “حمائميّاً” مع طهران مقابل موقف “صقوريّ” ضدّ السعودية والتحالف العربي.

تصدّع موقع إيران..

دفعت إيران هذا “الحنون” الديمقراطي الأميركي إلى إخراج مخالب ربّما أكثر غلاظة من مخالب سلفه الجمهوري. وجّهت القوات الأميركية ضربات واسعة موجعة ضدّ الفصائل الموالية لإيران في سوريا والعراق من دون أن يستبعد مستشار الأمن القومي جيك سوليفان توجيه ضربات حتى داخل الأراضي الإيرانية. والأقسى أنّ جماعة الحوثي، التي لطالما حظيت بحرص خبيث من واشنطن ولندن وعواصم غربية أخرى إلى درجة استعداء إدارة بايدن للسعودية، تلقّت ضربات أميركية بمشاركة بريطانية طالت بنى تحتية في كلّ المحافظات التي تسيطر عليها في اليمن من صعدة إلى الحديدة مروراً بذمار والبيضا وصنعاء وغيرها.

استهدفت واشنطن “فصائل طهران” في سوريا والعراق في 2 من الشهر الجاري واغتالت، الأربعاء، قياديين من “حزب الله العراقي” بالذات

أتاحت الأجواء الدولية المتضامنة مع إسرائيل إطلاق يد الأخيرة في استهداف قيادات رفيعة المستوى من الحرس الثوري في سوريا ومن الحزب في جنوب لبنان. وبدت البيئة الأمنيّة في كلا البلدين مكشوفة، بحيث ظهر أنّ اختراقات خطيرة تفتك بمناعة قوات “المحور في البلدين”. وإذا ما خرجت من طهران انتقادات لأجهزة أمنيّة في دمشق يشتبه بتقديمها “خدمات” لإسرائيل، وإذا ما ظهر قبل ذلك “عتب” على الحليف الروسي بالتواطؤ مع إسرائيل في هذا الصدد، فإنّ الأمر يكشف تصدّعاً لموقع إيران في سوريا.

دفعت إيران ثمن اعتمادها “فذلكة” اعتبرتها حذقة في النأي بنفسها عمّا تصدره فصائلها الموالية في العراق وسوريا ولبنان واليمن (وفلسطين طبعاً) من مواقف وما تقوم به من عمليات عسكرية تستهدف مواقع أميركية في سوريا والعراق والملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن. اعتبرت طهران أنّه ليس قرارها، بل قرار مستقلّ تتّخذه هذه الفصائل. أما والأمر كذلك، فقد استسهلت واشنطن ضرب الفصائل “المستقلّة عن طهران” على نحو يجرّد إيران من حجّة اعتبار الأمر اعتداء على نفوذها داخل “العواصم الأربع” التي تفاخرت بالإعلان سابقاً عن السيطرة عليها.

فوق ذلك أظهرت طهران تراجعاً لافتاً، سواء في نفي علاقتها بـ “طوفان الأقصى” أم بانخفاض لهجة الحرس الثوري في الداخل، أم بعرض التطوّع للتخفيف من التصعيد في المنطقة، أم بالإعلان عن إعادة تموضع تشبه الانسحاب لـ “مستشاري” الحرس الثوري في سوريا. وظهر مستوى آخر من التراجع بإعلان “كتائب حزب الله العراقية”، التي اتّهمتها الولايات المتحدة بالوقوف وراء الهجوم على موقع أميركي في قاعدة “برج 22” في الأردن الذي أسفر عن مقتل 3 جنود أميركيين وجرح 40 آخرين، بأنّها قرّرت وقف عملياتها ضدّ الأميركيين، لا بل عدم الردّ على أيّ ردّ أميركي ضدّها. ومع ذلك استهدفت واشنطن “فصائل طهران” في سوريا والعراق في 2 من الشهر الجاري واغتالت، الأربعاء، قياديين من “حزب الله العراقي” بالذات.

إقرأ أيضاً: تفهّم أميركيّ لاقتحام رفح… والخلاف على المدنيّين

فقدت إيران الورقة الفلسطينية وورقة غزّة بالذات. بات هذا الملفّ يناقَش في الرياض التي انعقدت في ضيافتها قمّة استثنائية عربية إسلامية في 11 تشرين الثاني الماضي، ويتمّ التداول بشأن مآلات غزّة وفلسطين في القاهرة والدوحة وحتى في أنقرة. باتت إيران معزولة عن هذا الملفّ وتحاول الاستماتة في استعادته بشعبوية مفرطة وبتحريك الفصائل والجبهات بإيقاعات لا تفيد غزّة ولا تؤثّر على مستقبل الوضع الفلسطيني برمّته.

قامت استراتيجية إيران القديمة-الجديدة على تفخيخ ملفّات النزاع في دول المنطقة ليكون لها النفوذ الواسع في تلك البلدان. سعت أيضاً منذ “طوفان الأقصى” إلى تكثيف الحضور داخل كلّ جبهات التصعيد متطوّعة للتهدئة وموحية بما تملكه من نفوذ يحرّك الفصائل ويهدّد الملاحة الدولية. غير أنّ ردّ الفعل الدولي بما في ذلك استباحة “قوات المحور” يعيد في إيران تسليط الضوء على عجز موجع في ميزان الخسائر والأرباح.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…