فلسطين بين نكبتين

مدة القراءة 6 د


مساحة قطاع غزّة لا تتعدّى 365 كيلومتراً مربّعاً، أي ما يشكّل نحو 1.3 في المئة فقط من أرض فلسطين التاريخية بين البحر والنهر والبالغة نحو 27 ألف كيلومتر. هذه الرقعة الصغيرة والمكتظّة بأكبر كثافة سكانية في العالم، مُنيت في الأشهر الأربعة الماضية بنكبة أكبر بكثير من تلك التي حلّت بكلّ الأرجاء الفلسطينية عام 1948 ولا تزال جروحها تنزف حتى الآن.
دفعت غزّة وحدها في الأيام الأخيرة المشؤومة من أرواح شيبها وشبابها والشابّات أكثر ممّا سقط من ضحايا في أيّ صراع عربي آخر مع إسرائيل منذ أكثر من 40 عاماً، وربّما أيّ صراع آخر منذ بدء إعلان كيان الاحتلال عام 1948. وفاقت وتيرة الارتفاع المتصاعد لأعداد الشهداء في هذا العدوان المتواصل، المراحل الأكثر دموية من الحربين اللتين شنّتهما الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق، وتجاوزت بكثير وتيرة سقوط الضحايا في حروب أوكرانيا والبوسنة وصربيا وكوسوفو. ويبدو أنّ الأسوأ لم يأتِ بعد.
أثناء كتابة هذه السطور، أعلنت وزارة الصحّة في قطاع غزّة عن ارتفاع حصيلة الحرب على غزة والهجوم البرّي إلى 27,478 شهيداً، غالبيّتهم من النساء والأطفال، وبلغ مجموع الجرحى منذ بداية الحرب 66,835 مصاباً. هؤلاء هم الذين جرى إيصالهم إلى المستشفيات في حين لا يزال نحو 8 آلاف آخرين في عداد المفقودين. أمّا أعداد المعتقلين فبالآلاف ولم يجرِ إحصاؤهم بعد. طبعاً هذا الإحصاء لم يأخذ في الحسبان الذين يموتون أو سيموتون من جرّاء المرض والأوبئة والجوع بعد حرمان أهالي القطاع الذين هُجّر ثلاثة أرباع سكانه من بيوتهم، من أبسط مقوّمات الحياة والعلاج والدواء وماء الشرب.

غزة المحكوم عليها بالإعدام تواجه وحدها الموت الساديّ البطيء. أيّ اتفاق لوقف النار قد يوقف القتال، لكنّه لن يدمل جرحاً غائراً في قلب الإنسانية

السجل الكارثي المفتوح
السجلّ الكارثي المفتوح على غاربه تجاوز بكثير ما حلّ بالفلسطينيين عام النكبة الأولى، حيث تتقاطع المصادر التاريخية عند نحو 15 ألف شهيد آنذاك، بينما بلغ عدد الشهداء العرب من 3,500 إلى سبعة آلاف شهيد من الذين شاركوا في جيش الإنقاذ. وبلغ عدد الأسرى العرب في أعقاب النكبة بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر 5,204 أسرى، منهم 4,702 فلسطيني والباقون أردنيون ومصريون وسعوديون وعراقيون ولبنانيون ويمنيون.
عام 1948 اكتفى الإسرائيليون بنحو 70 مجزرة وتدمير نحو 531 قرية فلسطينية بالكامل، وأمّا الآن فإنّ عطشهم للدم لم يرتوِ بعد 2,325 مجزرة لم توفّر شارعاً ولا حيّاً ولا مدينةً ولا مخيّماً ولا مزرعة في القطاع من شماله إلى جنوبه. ولم يكتفوا بهدم أكثر من 400 ألف وحدة سكنية ومجمّعات يعيش فيها من السكان ما يتجاوز أعداد المقيمين في قرى وبلدات كبرى، بل استمرّوا في هدم ما هو فوق الأرض بذريعة مطاردة الأنفاق تحت الأرض. وإذا أضفنا إلى هذه الأرقام تدمير البنية التحتية الخدماتية من ماء وكهرباء، ونظام الصحّة بما فيه المستشفيات، فضلاً عن المدارس والجامعات والمراكز الثقافية والدينية والمعالم الأثرية، فإنّ النتيجة هي محوٌ شبه كامل للحياة في غزّة بما يشبه محو آثار الحياة الفلسطينية عقب احتلال الصهاينة الأرض. في تلك الحرب جرى تهجير مئات الآلاف من بيوتهم. في هذه الحرب الضحايا والمشرّدون لا حول لهم ولا قوّة.

قنبلة نووية ضربت غزّة
بلغة الأرقام أيضاً، فإنّ الحصيلة الأوّلية للكارثة الغزّية، تجاوزت حصيلة الشهداء في الأشهر الثلاثة الأولى لغزو لبنان عام 1982، حيث تفيد سجلّات الشرطة والمستشفيات التي جمعتها صحيفة “النهار” في تلك السنة، أنّ عددهم بلغ نحو 17,825 شخصاً. أمّا في حرب النكسة عام 1976، فقد قُدّر عدد الذين سقطوا من المصريين والسوريين وغيرهم بنحو 19 ألف شخص أثناء القتال. كما سقط عدد مماثل من السوريين والمصريين في حرب أكتوبر 1973، وفقاً لوكالة “أسوشيتد برس”. ولا بدّ من التذكير أنّ معظم الضحايا في هذه الحروب هم من المقاتلين، وأمّا في غزّة فإنّ 70 في المئة من أعداد الضحايا هم من الأطفال والنساء. إثر تلك الحروب سقطت أنظمة وتغيّرت تحالفات وصارت خرائط المنطقة خرقة بالية يمزّقها المستعمرون الجدد ويتلاعبون بمصائرها.

دفعت غزّة وحدها في الأيام الأخيرة المشؤومة من أرواح شيبها وشبابها والشابّات أكثر ممّا سقط من ضحايا في أيّ صراع عربي آخر مع إسرائيل منذ أكثر من 40 عاماً

استناداً إلى المرصد الأورومتوسطيّ لحقوق الإنسان فإنّ إسرائيل أسقطت كمّية من المتفجّرات على القطاع إذا ما جمعت في قنبلة واحدة فستكون بمنزلة قنبلة نووية بقوة 30 كيلوطناً كافية لقتل نحو 170 ألف إنسان وإصابة نحو 270 ألفاً. ويعني ذلك أنّ القوة التدميرية للمتفجّرات التي أُلقيت على غزة تزيد على قوة القنبلة التي ألقتها اميركا على هيروشيما بمرّتين، علماً أنّ مساحة المدينة اليابانية تعادل 3 أضعاف مساحة القطاع. تلك القنبلة تسبّبت بانهيار إمبراطورية، هي إحدى أقوى وأشرس القوى العسكرية في العالم آنذاك. أمّا غزة فتلقّت ما يعادل قنبلتين نوويّتين وما زالت صامدة ولا ترفع الأعلام البيض وترفض الاستسلام.
إنّها حقّاً أسطورة لكنّها أيضاً لنكبة عظمى أشدّ مرارة من نكبة 1948 لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها من حيث البشاعة والفظاعة والاستفراد الوحشي بشريط أرضيّ ضيّق مكتظّ بالسكان والفتك بأهله، لا في غروزني ولا في ساراييفو ولا في الموصل ولا حتى في المدن الشهيدة في الحرب العالمية الثانية. وبالتأكيد سيكون وقعها السياسي على تاريخ المنطقة، بل وعلى تاريخ العالم، أشدّ وبالاً من سابقتها.

إقرأ أيضاً: شطب “الأونروا”: سمّ قاتل لحقّ العودة

غزة المحكوم عليها بالإعدام تواجه وحدها الموت الساديّ البطيء. أيّ اتفاق لوقف النار قد يوقف القتال، لكنّه لن يدمل جرحاً غائراً في قلب الإنسانية. غزة تفضح ضعفنا وعجزنا. إنّها ضمير العالم المقتول فيما آلة السحل والدمار الإسرائيلية تواصل الإبادة محصّنة بمؤامرة صمت أشدّ رعباً من المجزرة بحدّ ذاتها، وتسير عمياء نحو محو أيّ أثر للشعب الفلسطيني من الأرض.
أطفال غزة يواجهون بصدورهم العارية وأجسادهم النحيلة. أضعفهم أقوانا. هل يكفي أن ننحني على أشلائهم والتغنّي ببطولاتهم وتسجيلها في كتب الأساطير المطويّة؟

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…