شهد التنظيم المسلّح الأقوى في شمال سوريا، “هيئة تحرير الشام”، منذ آب الماضي، سلسلة من الاضطرابات الداخلية على مستوى الصفّين الأول والثاني من القيادة، بدأت باعتقال مفاجئ لأقرب مساعدي أبي محمد الجولاني (أحمد الشرع)، زعيم التنظيم، وهو العراقي أبو ماريا القحطاني (ميسر بن علي الجبوري)، ومحاولة اعتقال أبي أحمد زكور (جهاد عيسى الشيخ)، لولا تدخّل الأتراك وإنقاذه من بين أيدي آسريه، وما بين الحادثتين اعتقال العشرات من القيادات العسكرية ومرافقيهم، مع اتّهامات متفاوتة في الخطورة تبدأ من الاتصال بجهات خارجية، من دون التنسيق مع الجولاني، وهي تهمة القحطاني في البدء، وصولاً إلى العمالة للتحالف الدولي، ومحاولة الانقلاب على الجولاني نفسه، وتعيين شخصية قيادية أخرى على رأس التنظيم. وبعد أشهر من الاعتقال، والتحقيق، على يد جهاز الأمن العامّ التابع لهيئة التحرير، وحكومتها في أدلب، وقعت المفاجأة الأكثر شدّة من الأولى، وهي الإفراج عن المعتقلين العسكريين، بحجّة زيف الاتّهامات، وبقاء القحطاني في الاعتقال، وتوجيه اتّهامات معاكسة إلى محقّقي الجهاز الأمني نفسه، بتهمة ممارسة التعذيب القاسي في زنازين الهيئة وانتزاع اعترافات غير صحيحة، حتى يقال الآن إنّ بعض هؤلاء المحقّقين أضحوا الآن قيد الاعتقال، ومنهم اللبناني شادي مولوي، بحسب ما أورده المرصد السوري لحقوق الإنسان.
المعلومات المتداولة بمعظمها انتشرت عبر حسابات تلغرام، وكان لمعارضي الهيئة اليد الطولى في إيراد تفاصيل وتسريبات لا يمكن التحقّق من صحّتها، لأنّ المنصّة الرسمية لإعلام الهيئة اكتفت بالبيانات المقتضبة. لكنّ انقلاب الموقف من الاتّهام والإدانة ثمّ التبرئة، وتحوّل الجلّاد إلى ضحيّة، في أثناء أشهر معدودة، والانتقال من تبرير الإدانة شبه الجازمة إلى تسويغ البراءة شبه الناجزة، وهذا كلّه في وقت كانت فيه “هيئة تحرير الشام” تثير القلق لدى الفصائل الموالية لتركيا في نزعتها نحو توحيد المنطقة المحرّرة من نظام الأسد، بالترغيب والترهيب، وربّما بتنسيق مع أنقرة، فراحت تمدّ أذرعها إلى الشمال حيث النفوذ التركي، والجيش الوطني المموّل من الأتراك، والمستخدم في بعض الحالات، للقتال التطوّعي في أصقاع أخرى من العالم خارج سوريا (ليبيا، وأذربيجان، وربّما في غيرهما)، على نسق ما كان يفعله الروس مع منظمة فاغنر في أوكرانيا وسوريا ودول إفريقية مضطربة.
ثمّة مخاوف من تقارب تركي سوري برعاية روسيّة، يفضي إلى انسحاب الجيش التركي من شمال سوريا، وتسليم المنطقة إلى النظام السوري وحلفائه، أو ترك المعارضة ومصيرها
الجولاني في هيئته الجديدة
بالمقابل، كان معارضو الجولاني يتّهمونه بأنّه مهتمّ بالدرجة الأولى بأمرين أساسيَّين: الأوّل هو رفع تصنيف الأمم المتحدة عام 2013 للجماعة الأولى، أي جبهة النصرة التي أُسّست عام 2012، على أنّها منظمة إرهابية، ولا التحوّلات اللاحقة على الجماعة منذ ذلك الوقت. فلم ينجح انفصالها عن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) عام 2013، ولا انفصالها عن تنظيم القاعدة عام 2016، ولا تغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام، ولا تغيير اسمها مجدّداً إلى هيئة تحرير الشام عام 2017. كما أنّ الجولاني ابتعد عن حلفائه الأقربين من الجماعات الجهادية، لا سيما حرّاس الدين، ونأى بنفسه تدريجياً عن المقاتلين الأجانب، وبدّل مع الوقت الوجه المتشدّد لجماعته، وبدا ذلك في نهج الحكومة التابعة له في إدلب، حتى إنّه في نيسان العام الماضي، أي قبل الإعلان عن اعتقال القحطاني والحديث عن انقلاب ما ضدّ القيادة، أعلن الجولاني أنّه ليس مطلوباً من الحكومة مراقبة الناس في التزامهم بأحكام الشريعة، أي الابتعاد عن نهج المطاوعة. وكلّ هذه الإجراءات تسبّبت بانشقاقات متعاقبة من جسم التنظيم الأساسي، واعتراضات واتّهامات متنوّعة بالتخاذل والميوعة.
أمّا الأمر الثاني، الذي بذل فيه الجولاني جهداً كبيراً في السنوات الماضية، فهو محاولة تقديم نموذج حكومي وإداري واقتصادي وأمنيّ من نموذج الائتلاف المعارض في المناطق الشمالية الأخرى التي تحفل بالفوضى الأمنيّة، والتشاجر المستمرّ بين فصائل الجيش الوطني، والانشقاقات وإعادة تركيب التحالفات، بشكل دوري لا ينقطع، وهو ما كان يرهق الأتراك أيضاً. فمن الناحية الأمنيّة، أصبح لهيئة تحرير الشام جهاز أمنيّ قوي، هو جهاز الأمن العامّ، لكنّه كاسمه تحوّل إلى متابعة المعارضين من القوى المدنية والفصائل والأحزاب الأخرى، وليس فقط ملاحقة خلايا داعش والنظام في المنطقة الحرّة. واقتصادياً، اهتمّ الجولاني بشقّ الطرق، وبناء المؤسّسات المختلفة، فازدهرت معالم الرفاهية في مدينة إدلب، في زمن الحرب غير المنتهية، وحيث تتناوب أعمال القصف من الطرف الآخر، دون توقّف تقريباً، فتقتل النازحين في خيمهم والأطفال في مدارسهم. ولتغطية النفقات الكبيرة التي تتطلّبها تلك المشاريع، سعى إلى السيطرة على ما أمكنه من المعابر الحدودية، وفرض الضرائب والرسوم على المقيمين في هذه المنطقة المحاذية لتركيا. وهو ما يجرّ انتقادات لاذعة من المعارضين، والمنشقّين خاصة، إذ بدلاً من تدريب المقاتلين، وتصنيع الأسلحة، وتجهيز العدّة اللازمة لفتح الجبهات واسترداد ما خسرته المعارضة السورية عام 2019 من معاقلها في حلب وحماة في أقلّ تقدير، يتوجّه الجولاني إلى تسويق صورة مغايرة عنه، ويدير حملة علاقات عامّة مع جهات دولية، من خلال استضافتها وتعريفها بمنجزات حكومته.
ماذا لو اتّفق إردوغان مع الأسد؟
لذا يومئ المعارضون إلى ما يقوم به ما بقي من تنظيم داعش في البادية من عمليات مؤثّرة ضدّ وحدات الجيش السوري قرب مدينة تدمر، بل ما نجحت فيه حركة حماس من تطوير لقدراتها على الرغم من الحصار على القطاع منذ عام 2007، كدليل على الكسل الميداني لدى تنظيم الجولاني، وارتمائه تماماً في حضن الضامن التركي، الذي عقد اتفاقاً مع الجانب الروسي عام 2019، لمنع الأعمال العدائية في المنطقة بين النظام والمعارضة، مع أنّ النظام السوري وراعيه الروسي انتهكا اتفاق سوتشي لعام 2017، المنعقد بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني حسن روحاني والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وما توافقت عليه الدول الثلاث في مؤتمر آستانا في العام نفسه، من تعيين مناطق لخفض التصعيد فيها، وتسهيل الحياة على المدنيين، وتشمل محافظة إدلب وأجزاء معيّنة من المحافظات المجاورة (اللاذقية، حماة، وحلب) التي هي الآن أو ما بقي منها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، ومناطق معيّنة من شمال محافظة حمص، والغوطة الشرقية، ومناطق معيّنة من جنوبي سوريا (محافظتي درعا والقنيطرة)، مع استثناء تنظيمي داعش وجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً) من هذا الاتفاق. وبدلاً من خفض التصعيد في هذه المناطق والبدء بمسار الحلّ السياسي في سوريا، أسقط النظام وحلفاؤه على نحوٍ متتابع معظم هذه المناطق، في غضون سنتين أو أقلّ. وتوقّفت المعركة الأخيرة لاجتياح إدلب عقب إسقاط الريف الغربي لحلب والريف الشمالي لحماة، وأجزاء من محافظة إدلب، بعد تدخّل الجيش التركي، عام 2019.
وفوق ذلك كلّه، ثمّة مخاوف من تقارب تركي سوري برعاية روسيّة، يفضي إلى انسحاب الجيش التركي من شمال سوريا، وتسليم المنطقة إلى النظام السوري وحلفائه، أو ترك المعارضة ومصيرها. فأين هو الحلّ السياسي للأزمة السورية؟ وما هي ضماناته؟ وما هي قدرة المعارضة على الصمود عسكرياً من دون الضمان التركي؟ وماذا أعدّ أقوى تنظيم عسكري للمعارضة، وهو هيئة تحرير الشام، لمثل هذا اليوم، ولم يعُد ثمّة مكان يلجأ إليه المعارضون لنظام الأسد، في وقت يتفاقم فيه الشعور العنصري التركي ضدّ النازحين السوريين داخل تركيا، ولا تجد الدول الكبرى بديلاً مقبولاً من النظام الحالي؟
إقرأ أيضاً: داعش والموساد في المصيدة التركيّة: جبهة الخندق الواحد؟
في هذه النقطة ذاتها، قد يكون معارضو الجولاني قد وجدوا الفرصة سانحة للتخلّص منه، ورفع سوط التصنيف بالإرهاب عن التنظيم الحاكم لإدلب وما حواليها. وربّما يكون الإحساس المحترف أمنياً للجولاني وراء هجومه الاستباقي للقضاء على الخطر في مهده. لكنّ الأكيد حتى الآن أنّ هذه المناورة الخطرة تكاد تعصف بما بقي من المعارضة السورية المسلّحة، وبما ابتغته الثورة الشعبية قبل 13 عاماً، وهو بلوغ سوريا شطّ الأمان.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@