“انتخابي رئيساً لمحكمة العدل الدولية مسؤولية كبرى في تحقيق العدالة الدولية وإعلاء القانون الدولي. وأوّل ما يحضر إلى ذهني أيضاً في هذه اللحظة هو همّي الدائم أن تعود مدينتي بيروت أمّاً للشرائع كما هو لقبها، وأن ننجح كلبنانيين في إقامة دولة القانون في بلادنا، وأن يسود العدل بين أبنائها”؛ هكذا كتب الدكتور نوّاف سلام على حسابه في منصّة “إكس”، بُعيد انتخابه رئيساً لمحكمة العدل الدولية أمس.
ما انتخاب الدكتور سلام، الدبلوماسي والسياسي اللبناني، رئيساً لمحكمة العدل الدولية، إلّا الوجه الآخر للمأساة اللبنانية. المأساة التي لا تنفكّ تتكرّر منذ فجر التاريخ: وطن يلفظ أبناءه وتدور دوائره عليهم فيُحارَبون فيه ويُظلَمون ويُنبَذون، ثمّ تتلقّفهم دول العالم لتعطيهم حقّ قدرهم وتكرّمهم وتستفيد من قدراتهم وإبداعاتهم. لم يشذّ الدكتور نواف سلام عن القاعدة ولم يكن استثناءً فيها، وهذا قدَر اللبنانيين الكبار، الكبار قدْراً وقدرةً لا الكبار في السنّ. وكذلك لم تخرج الدولة اللبنانية، ولبنان التاريخي، على أعرافها وعاداتها في إعلاء شأن الصغار وتكريسهم وظلم الكبار وإبعادهم.
لبنانيّ صميم
سلام المولود عام 1953 في بيروت، حائز شهادة دكتوراه في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس عام 1992، وشهادة دكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون، وشهادة ماجستير في القانون من كلّية الحقوق في جامعة هارفرد. وهو سليل عائلة بيروتية عريقة ومعروفة. والده عبد الله سلام ووالدته رقت بيهم. جدّه لأبيه سليم سلام مؤسّس “الحركة الإصلاحية في بيروت”، والمنتخَب نائباً عن بيروت في مجلس المبعوثان العثماني عام 1912. عمّه الزعيم الوطني صائب سلام المناضل العنيد ضدّ الانتداب الفرنسي قبل الاستقلال، ورئيس الحكومة اللبنانية أربع مرّات بين 1952 و1973. وابن عمّه رئيس الحكومة اللبنانية بين 2014 و2016، تمّام سلام. هو متزوّج من الصحافية سحر بعاصيري، سفيرة لبنان لدى منظمة اليونيسكو، وله ولدان عبد الله ومروان.
ما انتخاب الدكتور سلام، الدبلوماسي والسياسي اللبناني، رئيساً لمحكمة العدل الدولية، إلّا الوجه الآخر للمأساة اللبنانية
عمل محاضراً في جامعة السوربون، وباحثاً زائراً في مركز “ويذرهيد” للعلاقات الدولية في جامعة هارفرد، ومحامياً بين هذه وتلك.
إلى ذلك، شغل منصب سفير لبنان ومندوبه الدائم في الأمم المتحدة في نيويورك بين عامَي 2007 و2017. عُرف بمواقفه الوطنية والإنسانية خلال مسيرته الدبلوماسية والسياسية والفكرية والوطنية، وذائداً عن حقوق لبنان بين الدول والأمم، ومناضلاً في سبيل رفع الضيم عن أبنائه، وداعياً إلى احترام سيادته وتأمين استقراره من خلال تنفيذ القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن منذ القرار 245 إلى القرار 1701، ومنافحاً عن سياسة النأي بالنفس عن النزاع السوري والسعي إلى إنهاء الإفلات من العقاب من خلال إنشاء المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان في قضيّة اغتيال رئيس الحكومة السابق الشهيد رفيق الحريري، الذي تحلّ ذكرى اغتياله بعد أيام. كما عُرف سلام بذوده عن قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، وبالدفاع عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني: حقّ تقرير المصير وحقّ إقامة دولة فلسطينية مستقلّة، ونشَد السلام في كلّ ما كتب وقال وفعل.
انضمّ إلى محكمة العدل الدولية في شباط عام 2018، وانتُخب رئيساً لها أمس.
ظلم ذوي القربى
لم يبرز اسم نوّاف سلام فجأةً، ولم يسقط من علٍ. إذ لطالما انتظر اللبنانيون، أو قسم كبير منهم على الأقلّ، أن يصدر خبر تكليفه، في السنوات الماضية، تشكيل حكومة لبنانية تكون علامة بارزة في تاريخ لبنان المعاصر، لوضع حدّ للانهيارات المتتالية في هذا الوطن الصغير. فالرجل بما يمثّل من ثقل ووطني وفكري محطّ آمال كثيرين في هذا الوطن ومنتهى رجائهم.
لكنّ الانقسام السياسي العمودي والأفقي في لبنان، وصراع الطوائف فيه، وغلبة البعض منها سياسياً، حالت دون تبوّئه سدّة رئاسة الحكومة اللبنانية. على الأرجح لم يُرِد ذوو الشوكة حالياً رئيساً للوزراء في لبنان لا يأتمر بأوامر الخارج، ويُخرج لبنان من دائرة المحاور واستقطاباتها الحادّة، ويعيد لبنان إلى دوره الحضاري والتاريخي: رسالة حضارية وملتقى ثقافات وحضارات وجسر يربط الشرق بالغرب والأديان ببعضها ليعمّ الأمن ويحلّ السلام.
وقتها وصلت الرسالة: لا نريد للبنان أن يستقرّ وأن ينعم بالهدوء والأمن والسلام، ولا نريد أن ننأى عن المحاور والحروب خارج حدود الوطن، وعلى تخومه وبين ظهرانيه… لهذا لا نريد “المقايضة”، وتالياً لن نقبل بنوّاف سلام على رأس السلطة التنفيذية.
إقرأ أيضاً: محمد يوسف بيضون في يومه… رحيل صلة الوصل
وكان لهم ما أرادوا.
السؤال الآن الذي ينطرح على ذوي الشوكة حاليّاً: أما زلتم على موقفكم من نوّاف سلام، وهو اليوم على رأس المحكمة الدولية التي تنشدون قراراً منها لوضع حدّ للحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة؟
أحسب أنّ نواف سلام، بما يمثّل من ثقل فكري وقانوني، ومن انحياز لا تشوبه شائبة إلى الحقّ، لن يخيّب آمالكم كما خيّبتم آمالنا.
هنيئاً لمحكمة العدل الدولية، وللعالم بنوّاف سلام. هنيئاً للبنان، وهنيئاً لنا.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@