لم تكد تمرّ ساعات قليلة على إصدار قائد الجيش العماد جوزف عون قراره بفسخ العقد مع “محامي وزارة الدفاع” منذ أكثر من 50 عاماً ناجي البستاني بدءاً من 23 شباط المقبل حتى عاجَله وزير الدفاع موريس سليم بقرارٍ مضادٍّ أكّد فيه “استمرار البستاني بإعطاء المشورة القانونية لوزير الدفاع بموجب علاقة عَقدية قائمة مع وزارة الدفاع”.
خطوة وزير الدفاع نفّست من وطأة قرار قائد الجيش واعتباره كأنّه لم يكن، لأنّه لا مفاعيل له على المشورة القانونية التي يقدّمها المحامي البستاني للوزير بموجب عقد منفصل عن العقد الموقّع مع قيادة الجيش.
في هذا السياق، أكّد الوزير “صلاحيّة” الاتفاقية الموقّعة بين المحامي البستاني ووزارة الدفاع وليس قيادة الجيش التي تُعتبر إحدى مؤسّسات وزارة الدفاع إلى جانب المديرية العامّة للإدارة والمفتشية العامّة والمجلس العسكري. ومن خلال إشارة العماد عون إلى “فسخ الاتفاقية مع البستاني التابع للغرفة العسكرية لدى جانب وزارة الدفاع الوطني إداريّاً مقرّ عامّ الجيش” يكون قد أقرّ بشكل غير مباشر باستمرار عمل البستاني كمستشار قانوني للوزير حيث إنّ المادّة 9 من قانون الدفاع تنصّ على “ارتباط الغرفة العسكرية مباشرة بوزير الدفاع”. واستطراداً لن تُسترجع الأوراق العسكرية المسلّمة لصاحب العلاقة خلال مدّة خدمته كما طلب عون في قراره… لتبقى الأمور على ما هي عليه باستثناء عدم استقبال عون للبستاني في مكتبه وإصدار قرار بمنع دخول سيارته إلى باحة مبنى “القيادة”، على كل حال هذه ليست المرّة الأولى التي يستعمل فيها القائد صلاحياته بتنظيم دخول السيارات إلى الوزارة.
خطوة وزير الدفاع نفّست من وطأة قرار قائد الجيش واعتباره كأنّه لم يكن، لأنّه لا مفاعيل له على المشورة القانونية التي يقدّمها المحامي البستاني للوزير بموجب عقد منفصل عن العقد الموقّع مع قيادة الجيش
“ما في ستر” مغطّى
هذا في المنحى القانوني وأمّا في المنحى السياسي فإنّ الأمور أفظع. لم يعد هناك من ستر مغطّى في اليرزة حيث تجاوز قائد الجيش كلّ المحاذير في مسار التعاطي المثير للجدل الذي لطالما طَبَع منذ التسعينيات علاقة قائد الجيش بوزير الدفاع باستثناء الحالات التي قرّر فيها بعض وزراء الدفاع بأن يكونوا “خيال صحراء” في اليرزة حاصرين مهمّاتهم بتوقيع رخص حمل السلاح، وهذه بالتأكيد ليست حالة الوزير سليم العميد السابق في الجيش.
عملياً، لم تنفع كلّ الوساطات في الحدّ من بقعة الخلاف بين “القائد” والوزير، ومن ضمنها وساطة الرئيس نجيب ميقاتي الذي اتّهمه النائب الياس بو صعب بصبّ الزيت على النار في خلاف عون-سليم. وصل الأمر إلى حدّ اتّهام قريبين من العماد عون المحامي البستاني “بتنفيذ رغبة جبران باسيل بالتنسيق مع وزير الدفاع برفض أسماء الضبّاط المستشارين في المحكمة العسكرية بحجّة عدم حيازتهم لإجازة في الحقوق، مع وعد بطرح اسمه لرئاسة الجمهورية”.
آخر جولات الخلاف بين الرجلين أدّت إلى تعطيل عمل المحكمة العسكرية. ففي بداية كلّ عام يقوم المجلس العسكري برئاسة قائد الجيش بإجراء تشكيلات تشمل الضبّاط المستشارين في كلّ هيئات المحكمة العسكرية، أي الهيئة الدائمة (برئاسة العميد خليل جابر) والهيئة الاحتياطيّة (برئاسة العميد طوني شديد) وهيئة محكمة التمييز العسكرية الناظرة بالقضايا الجنائية (برئاسة القاضي جوني القزّي) ومحكمة التمييز الناظرة بالجنح (برئاسة القاضي جان مارك عويس)، بالإضافة إلى الحكّام المنفردين.
لكن بعد إحالة التشكيلات إلى وزير الدفاع لم يلتزم الأخير بالتوقيع على كامل الأسماء اعتراضاً على عدم حيازة الضبّاط في محكمة التمييز الذين اختارهم العماد عون إجازة في الحقوق كما يفرض قانون الدفاع الذي فتح ثغرة للاستعانة بضبّاط غير مجازين في الحقوق، لكنّ سليم اعتبر أنّه ما دام هذا الشرط (حيازة شهادة بالحقوق) متوافراً في بعض الضبّاط فلا يجوز القفز فوقه كما فعل قائد الجيش.
تعدٍّ على الصلاحيّات
من جهته، اتّهم عون الوزير “بالتعدّي على صلاحيّات المجلس العسكري بناءً على مشورة البستاني حيث لا يحقّ له التعديل بالأسماء تماماً كما “دَفَشَ” الأخير الوزير لرفع ملفّات خاصّة بالجيش إلى ديوان المحاسبة لشبهة وجود فساد، وبأنّ سليم سبق أن وقّع على قرارات المجلس العسكري بداية عام 2023 ومن ضمنها أسماء ضبّاط لا يحملون إجازة بالحقوق، والأهمّ أنّ الوزير يشتغل سياسة ونكايات وتنفيذ أجندة باسيل في الوزارة”. ومع اقتراح الوزير لأسماء أخرى بديلة رفض قائد الجيش تعميم قرارات هؤلاء وأصدر قراراً بمنعهم من دخول المحكمة العسكرية.
ليس مُجرّد تفصيل صغير، برأي مصادر معنيّة، أن “يُطرَد” أحد أهمّ المحامين المحترمين وأصحاب الخبرة والصيت “الذهبي” من وزارة الدفاع بشحطة قلم من قائد للجيش
أدّى تعطيل عمل المحكمة العسكرية إلى تجميد بتّ العديد من الملفّات المهمّة والحسّاسة وتكّدس الملفّات، كما “عَلَت الصرخة” لدى المحامين والمتقاضين والموقوفين وتأجّل بتّ طلبات إخلاء سبيل العديد من الموقوفين وجمد العديد من جلسات المحاكمة والأحكام. يعترف بعض المحامين بأنّ “خلاف الوزير وقائد الجيش أدّى حرفيّاً إلى تحوّل بعض الموقوفين إلى رهائن”.
قمع في اليرزة؟
تجاوزت كلّ هذه الجلبة حدود الخلاف القانوني والسياسي المستمرّ بين الوزير و”القائد” ليُسلّط الضوء على ما يصفه البعض بـ “الممارسات القمعية” التي ينتهجها القائد والتي “تقدّم نموذجاً لما سيكون عليه أداء جوزف عون في قصر بعبدا إذا قادت التسوية لانتخابه رئيساً للجمهورية”.
ليس مُجرّد تفصيل صغير، برأي مصادر معنيّة، أن “يُطرَد” أحد أهمّ المحامين المحترمين وأصحاب الخبرة والصيت “الذهبي” من وزارة الدفاع بشحطة قلم من قائد للجيش. وهو قرار لن يؤثّر على استمراره بمنصب “محامي وزارة الدفاع” ولا على احتمال أن يستعين قائد الجيش الجديد بخبراته.
مقرّ وزارة الدفاع الذي تحوّل إلى محميّة لـ “القائد” شهد حتى الآن على أربع جولات مصارعة مع ثلاثة وزراء دفاع قاسمهم المشترك جبران باسيل الذي يتّهمه عون بـ “نقل معركته الخاصة مع قائد الجيش إلى قلب وزارة الدفاع”.
لكنّ المصادر عينها ترى أنّ عون الذي كان محقّاً في لجم تدخّلات باسيل وغيره في شؤون المؤسّسة العسكرية قدّم نموذجاً لأسوأ إدارة كادت أن تقنع الوزير سليم بتنفيذ قانون الدفاع “لجهة سجن قائد الجيش ستّين يوماً عند المخالفة”، وهو ما أعلنه صراحة النائب جميل السيّد الذي اعتبر أنّ من “واجب قائد الجيش أن ينسجم مع وزير الدفاع وليس العكس”.
حتى الآن قدّم المرشّح لرئاسة الجمهورية نماذج فاقعة عن خطابه الرئاسي المفترض: فقدان الأعصاب، قلّة احترام من توجب الأخلاق احترامهم، وضع “حواجز طيّارة” داخل مقرّ رسمي تابع للدولة، وضع أسوار عالية تحجب آليّة التصرّف بالأموال الخاصة المجيّرة للجيش، تحويل بطاقات تسهيل مرور إلى بطاقات حمل سلاح. وقائد الجيش الذي يقول إنّه لا يشتغل سياسة يستضيف في منزله سليمان فرنجية عشيّة التمديد له في مجلس النواب.
إقرأ أيضاً: “طارت” الانتدابات والحكومة: لا تعيين!
الدستوريّ: تشكيك بالتمديد للقائد
أمس تحديداً حُقِن قائد الجيش بجرعة أخرى من المقوّيات بعد خروج المجلس الدستوري بنتيجة “لا قرار” حيال الطعن الذي قدّمه نواب في التيار الوطني الحر بالتمديد لقائد الجيش الذي بات محصّناً من أعلى مرجعية دستورية.
لكنّ أوساطاً قانونية تجزم أنّ الـ”لا قرار” هو تشكيك قانوني بشرعية بقاء قائد الجيش عاماً إضافياً، حيث تفيد معلومات “أساس” بأنّ رئيس المجلس الدستوري القاضي طنوس مشلب مع ثلاثة أعضاء أقرّوا بلادستورية القانون الصادر عن مجلس النواب باعتباره مفصّلاً على قياس شخص واحد بالتحديد، واستفاد منه ضابطان آخران، في مقابل ستّة أعضاء صوّتوا لمصلحة القانون.
لمتابعة الكاتب على تويتر: MalakAkil@