ليبيا: خطّة “الخمسة الكبار”.. لم تنه رحلة التيه

مدة القراءة 7 د


لا حلّ سياسيّاً في الأفق الليبي. الأزمة باقية والبلاد مقسّمة فعليّاً، تتنازعها شكلاً حكومتان: واحدة في طبرق الشرق وأخرى في طرابلس الغرب. واحدة معترف بها دولياً لكنّها تواجه التشكيك محليّاً، وأخرى مقبولة من أطراف محلّية لكنّها مرفوضة من المجتمع الدولي. أمّا على الأرض فالتشرذم أعقد بكثير ولم تظهر بعد أيّ مؤشّرات إلى مخطّط أو خطة قابلين للتطبيق لإخراج البلاد من حالة التيه التي تعيش فيها منذ أحداث ثورة شباط عام 2011 حتى الآن. لم تنجح النخب السياسية الليبية في تحقيق الانتقال السياسي في البلاد طوال السنوات الماضية. لا الحلول السياسية ولا المفاوضات نجحت في الوصول إلى توافقات لبناء نظام سياسي يحظى بمشروعية مجتمعية، ولا الحلول العسكرية نجحت في تغليب طرف على آخر وفرض ما يراه بالقوة.

لقد ظلّ الحلّ السياسي مأزوماً ويدور في دوَّامات المفاوضات في المؤتمرات واللقاءات من دون تقدّم. وظلّ الحلّ العسكري طوال الوقت عاجزاً إلا عن قتل المدنيين وتوسيع دوائر النزوح. وفي وسط كلّ ذلك كان اللافت أنّ الدور الدولي الذي كان ولا يزال فعّالاً ومتعدّداً، لم يحقّق في ليبيا بدوره تغييراً إيجابياً، بل كان أحد مصادر تعميق الأزمة السياسية وتشكيل بعد بنيوي داخلها.

لا حلّ سياسيّاً في الأفق الليبي. الأزمة باقية والبلاد مقسّمة فعليّاً، تتنازعها شكلاً حكومتان: واحدة في طبرق الشرق وأخرى في طرابلس الغرب. واحدة معترف بها دولياً لكنّها تواجه التشكيك محليّاً، وأخرى مقبولة من أطراف محلّية لكنّها مرفوضة من المجتمع الدولي

كما ظلّ الدور الإقليمي والدولي حاضراً في إدارة العلاقات الداخلية بين القوى المتصارعة. جاء المبعوثون الدوليون الواحد تلو الآخر حتى وصل عددهم إلى ثمانية، كما شهدت مدن غربية وعربية انعقاد المؤتمر تلو الآخر، بدءاً من مؤتمر باريس بفرنسا إلى ملتقى الحوار الليبي في جنيف وتونس مروراً بمؤتمر باليرمو بإيطاليا ومؤتمر مدينة الصخيرات المغربية. لكنّها كلّها كانت بلا نتيجة ولم تفلح في إعادة توحيد البلاد التي صارت معبراً للّاجئين وتجّار السلاح والمرتزقة وخطراً جسيماً على دول الجوار من السودان إلى تشاد والنيجر والجزائر.

ضاعت فرص الحلّ الواحدة تلو الأخرى، وأبرزها كانت الكارثة الإنسانية التي سبّبها إعصار “دانيال” وانهيار السدّين في درنة. كان يمكن الزخم الإنساني أن يكون فرصة نادرة لتوحيد البلاد، لكن لم يجرِ استغلالها.

“خطة الخمسة الكبار”

في إثر الكارثة الطبيعية وقبل أن تلملم ليبيا جروحها، أطلق المبعوث الخاصّ للأمم المتحدة الحالي عبد الله باتيلي “خطة الخمسة الكبار”، لإنهاء الأزمة السياسية في ليبيا.

تقوم هذه الخطّة على ترتيب اجتماع بين الأطراف الخمسة الرئيسية للتوصّل إلى توافق بشأن العملية السياسية، بيد أنّ هؤلاء إمّا رفضوا المشاركة أو تشكّك بعضهم في شرعية البعض الآخر.

زادت مبادرة باتيلي من خلط أوراق المشهد الليبي وباتت مشكلة في حدّ ذاتها، على الرغم من أنّها قدّمت لتكون حلّاً للأزمة السياسية ومخرجاً للعملية الانتخابية المعلّقة منذ سنتين بسبب خلافات الأفرقاء السياسيين في شرق البلاد وغربها. وجاءت عودة النشاط الدبلوماسي الأميركي بعد فترة من الانسحاب، لتزيد الموقف تعقيداً في ضوء قلق واشنطن بشأن تنامي الدور الروسي في ليبيا الذي كانت ذروته في إعلان موسكو عن “الفيلق الإفريقي” بديلاً عن مجموعة “فاغنر” التي قتل قائدها في ظروف غامضة، على أن يكون المقرّ الرئيسي للأداة الروسية الجديدة لاختراق إفريقيا والحلول محلّ الفرنسيين، في معاقل اللواء خليفة حفتر الحليف البارز للكرملين في الشرق الليبي.

علّة خطّة “الخمسة الكبار” هي في حصر الأزمة وحلولها في أشخاص بعينهم وخلق واقع لا يتعدّى هؤلاء الخمسة في كلّ الأحوال.

“الخمسة الكبار” هم: رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وما يُعرف بـ”القيادة العامّة” في شرق البلاد.

يعني هذا اعتبار هذه الأطراف بمجملها أطراف الأزمة الرئيسة الفاعلة في البلاد، وبها يمكن معالجة الخلافات التي حالت دون إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجّلة منذ نحو عامين، ناهيك عن تمرير قانون توافقي يمكن من خلاله إجراء استحقاق انتخابي شامل يكسر الجمود السياسي، وينهي الانقسام والصراع.

سارعت البعثات الدبلوماسية في ليبيا، ومن بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، إلى إعلان “ترحيبها بحرارة” بالخطّة الأممية، وتُرجم ذلك في جلسة لمجلس الأمن في 18 كانون الأول 2023، حيث لاقت هذه المبادرة الترحيب الواسع أيضاً.

في إثر الكارثة الطبيعية وقبل أن تلملم ليبيا جروحها، أطلق المبعوث الخاصّ للأمم المتحدة الحالي عبد الله باتيلي “خطة الخمسة الكبار”، لإنهاء الأزمة السياسية في ليبيا

الفشل: شروط وشروط مضادّة…

مع ذلك لم تخطُ المبادرة خطوة واحدة إلى الإمام بعد مضيّ أكثر من شهرين على إطلاقها، لا بل أعلنت عن تعثّرها بطريقة غير مباشرة، إذ أوضح المبعوث الأممي إلى ليبيا عند إحاطته مجلس الأمن علماً بها أنّ من القادة من وضع شروطاً للمشاركة:

– اشترط مجلس النواب في طبرق أن يرتكز الحوار على تشكيل حكومة جديدة، ورفض مشاركة حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة، وصدر هذا الرفض عن كلّ الأجسام السياسية والعسكرية في شرق البلاد، وهي البرلمان والجيش وحكومة أسامة حماد.

– في المقابل كان الرفض المضادّ من الدبيبة ومجلس الدولة اللذين يعارضان أيّ تغيير حكومي قبل إجراء الانتخابات.

– هذا ما دفع بالمبعوث الأممي إلى حضّ الأطراف على “تقاسم مقترحاتهم في شأن سبل تسويتها في عملية سياسية جامعة”، من دون تقديم أيّة مقترحات عملية وآنيّة تدعم هذه الخطة والتوجّه.

في الواقع، سادت حالة من الغضب والانزعاج لدى كثير من السياسيين في شرق البلاد وغربها وجنوبها، من هذه الخطة، ولا سيما من ناحية الحصر والتحديد في أعضاء محدّدين، إذ اعتبروا أنّ حالة الانقسام والانسداد لا يمكن أن تُحلّ بمن كان جزءاً من المشكلة، ناهيك عن اقتصارها عليهم فقط.

أثار حصر حلّ الانسداد في خمسة أطراف حفيظة أعضاء مجلسَي الدولة والنواب عن المنطقة الجنوبية، وأعربوا عن رفضهم لهذه المبادرة. كما غيّبت الخطة الأممية المكوّن العسكري والأمنيّ في غرب البلاد، وكونه جزءاً في معادلة القوّة على الأرض، والتأثير السياسي المصاحب لذلك، ناهيك عن كونه جزءاً من معادلة سياسية أمنيّة لا يمكن القفز عليها في أيّ استحقاق حقيقي وواقعي، سواء أكان انتخابيّاً أم اتفاقاً سياسيّاً يراد له أن يكون واقعاً على الأرض بطريقة أو أخرى.

كذلك استبعدت دعوة باتيلي بعض الأطراف المؤثّرة في ليبيا، ومن بينها أعضاء النظام السابق وشيوخ وأعيان القبائل والأحزاب السياسية. وعلى الرغم من الأوزان النسبية المختلفة لتلك المكوّنات، فإنّ عدم إشراكها قد يؤدّي إلى معالجة منقوصة، إذ لا يزال أنصار نظام القذافي يتمتّعون بقبول شعبي لدى الكثير من الليبيين.

إقرأ أيضاً: متى تحطّ طائرة إردوغان في القاهرة؟

تُضاف إلى ذلك التعقيدات المرتبطة بموقف كلّ طرف من القوانين الانتخابية التي أقرّها مجلس النواب الليبي، إذ يتمسّك بها الأخير باعتبارها تعبّر عن الشرعية الليبية، في حين يقف المجلس الأعلى للدولة في اتجاه معارض لتلك القوانين، في ظلّ اتّهامه لمجلس النواب بإجراء تعديلات تتجاوز ما تمّ التوافق عليه في اجتماعات اللجنة المشتركة (6+6) المعنيّة بإعداد القوانين الانتخابية.

ثمّة خشية من أنّه في حال نجاح الخطة، فإنّ ذلك قد يؤسّس لحالة مضمونها تثبيت طبقة سياسية دائمة في البلاد، تتحكّم في المشهد الداخلي وتتفاعل معه إقليميّاً ودوليّاً. علماً أنّ هذه الطبقة هي السبب الأبرز في الانسداد السياسي الذي تعانيه البلاد، بسبب تمسّك كلّ طرف بما يراه مناسباً لبقائه في السلطة. وهكذا قد تكرّس هذه المبادرة نفوذ “الخمسة الكبار” وتقصي المكوّنات الأخرى للمجتمع، المدنية منها والسياسية، لتكون المحصّلة مواصلة السير في طريق التيه السياسي وتعزيز التقاسم والانقسام.

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…