لإثيوبيا حلم إمبراطوري قديم جديد لا تخفيه، ولا تفوّت فرصة لتحقيقه. تنظر إلى القرن الإفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى بوصفها منطقة نفوذ إقليمي خاضعة لها. هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بالحصول على منفذ على البحر الأحمر والخروج من “السجن الجغرافي”. صار الأمر هاجسها منذ أن صارت دولة حبيسة بعدما حرمها استقلال إريتريا عنها عام 1993 من الساحل وميناءي عصب ومصوع. حاولت تعويض خسارتها بالاعتماد في تجارتها الدولية على جارتها البحريّة جيبوتي لتمرير 95 في المئة من وارداتها وصادراتها عبر ممرّ أديس أبابا – جيبوتي مقابل 1.5 مليار دولار سنوياً، في حين تواجه أزمة في سداد ديونها الكبيرة.
أبرمت الاتفاق السابق مع جارتها جيبوتي في وقت كانت علاقتها جيّدة مع المحيط، لا سيما مع إريتريا. حينها نال رئيس وزرائها أبي أحمد جائزة نوبل للسلام لجهوده في إبرام اتفاقات وئام مع جيرانه. لكن بعد اجتياح قواته إقليم تيغراي عام 2020، عاد التوتّر إلى سابق عهده بين إثيوبيا وكلّ من حولها، وازداد الأمر سوءاً مع مصر، شريكتها في نهر النيل، بعدما قرّرت بناء سدّ النهضة على منابع النهر لتحرمها حصّة وافرة من ماء الشرب والريّ، ومع الرئيس الانتقالي السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان بعدما استقبلت أديس أبابا خصمه محمد حمدان دقلو. وعندما صار منفذها البحري في جيبوتي مهدّداً بفعل سياساتها ومكلفاً من الناحية المالية، توجّهت نحو الصومال، البلد العربي الذي تفكّك في أعقاب الطمع الإثيوبي بإقليم أوغادين الصومالي. منذ الحرب بين نظامَي منغستو هيلا ميريام ومحمد سياد بري لم تستقم الأمور في الصومال الذي أنهكته حروب الداخل والخارج وتفكّك قطعاً قطعاً وتناهشه أمراء الحرب.
إثيوبيا التي كانت على الدوام حائط السدّ للمدّ العربي الإسلامي إلى جنوب القارّة السمراء، تراهن أنّها ستلاقي أصداء إيجابية في الغرب وإسرائيل ودعماً كبيراً لمشاريعها
الأرض الضائعة… في الصومال الضائع
وجد أبي أحمد الباحث عن مجد ضائع ضالّته في “جمهورية أرض الصومال” (صومالي لاند) المعلنة من جانب واحد، فأبرم مع رئيسها موسى عبدي اتفاق تفاهم تستأجر بموجبه أديس أبابا لمدّة خمسين عاماً واجهة بحريّة في ميناء بربرة المطلّ على خليج عدن والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر تمتدّ على مسافة 20 كيلومتراً مع قاعدة عسكرية، في مقابل حصّة صغيرة من شركة الخطوط الجوّية الإثيوبية.
يستفيد “الرئيس” موسى عبدي من الاتفاق لأنّه يضمن له اعترافاً من ثاني أكبر دولة إفريقية بـ”جمهوريّته” التي لم يعترف بها أحد. كما من شأن التصدير والاستيراد الإثيوبيَّين أن ينعشا اقتصاد كانتونه المعدم.
أمّا أبي أحمد فإنّ طموحه أكبر بكثير. يريد أن يخرج من السجن الجغرافي وأن يعود إلى البحر الأحمر “الحدود الطبيعية” لإثيوبيا، كما يقول. يريد دوراً في معادلة هذا المسطّح المائي الذي صار محطّ أنظار القوى الكبرى بعد المواجهات الأخيرة في باب المندب. من شأنه أيضاً أن يعزّز الأمن القومي الإثيوبي ولو على حساب الجيران، وأن يتيح لأديس أبابا تأسيس قوة بحريّة ترفع من قدرتها العسكرية وتسهم في توسيع نفوذها الإقليمي، وهو ما يجعلها شرطي المنطقة، فضلاً عن ترسيخ حضورها الاقتصادي وتحويلها مقصداً للاستثمارات الأجنبية وربط اقتصادات القرن الإفريقي باقتصادها.
الأهمّ أنّ وجودها كلاعب كبير وكصديق لأميركا وإسرائيل عند مدخل البحر، يشجّع ثقة الغرب بها بعد تراجع العلاقات بين الطرفين بسبب تداعيات حرب تيغراي، ويجعلها الشريك المفضّل له في مواجهة ما بات يعرف بـ”الخطر الحوثي” وخطر القراصنة الصوماليين الذي يتجدّد.
لإثيوبيا حلم إمبراطوري قديم جديد لا تخفيه، ولا تفوّت فرصة لتحقيقه. تنظر إلى القرن الإفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى بوصفها منطقة نفوذ إقليمي خاضعة لها
… الحلف مع إسرائيل وأميركا
إثيوبيا التي كانت على الدوام حائط السدّ للمدّ العربي الإسلامي إلى جنوب القارّة السمراء، تراهن أنّها ستلاقي أصداء إيجابية في الغرب وإسرائيل ودعماً كبيراً لمشاريعها التوسّعية في ظلّ التطوّرات الجارية في القرن الإفريقي من السودان إلى الضفة الآسيوية في البحر الأحمر، لا سيما في اليمن.
لكنّ تحقيق هذا الهدف دونه تحدّيات كثيرة. الدول المجاورة التي دخل معظمها في صدام مع إثيوبيا – أبي أحمد لا تنظر بارتياح لرؤية أديس أبابا تتمدّد بطريقة استفزازية على حسابها في ظلّ الفوضى القائمة في المنطقة والعالم. وإذا كانت “جمهورية أرض الصومال” شريكاً في هذه اللعبة فإنّ ذلك لن يعفيها من مشكلة كبيرة قد تنفجر في داخلها بعد توقيع الاتفاق. ذلك أنّ التركيبة العشائرية في داخلها قد تنفجر تلقائياً. هذه “الجمهورية” موزّعة مغانم وإقطاعات على العشائر الـ12 الكبرى فيها، ومن شأن أيّ “فرصة” جديدة لأيّ قبيلة من قبائلها تمكّنها من تحسين أوضاعها على حساب مثيلاتها أن تقلب التوازن العشائري والنسق الاجتماعي الدقيق في هذا البلد وتطيح الاستقرار الشكليّ فيها.
الصومال المفكّك… يعترض
أمّا من بقي من الدولة الرسمية في الصومال المفكّك، فهو رئيسها حسن شيخ محمود، الذي سرعان ما وصف الاتفاق الإثيوبي مع “صومالي لاند” بأنّه اعتداء صارخ على السيادة الصومالية. وهدّد بالحرب ردّاً على العدوان، بعدما أعاد سلوك أبي أحمد إلى أذهان الصوماليين جميعاً ذكرى نكبة حرب أوغادين. ولأنّ الصومال منكوبة وضعيفة فإنّها وجدت في خصوم إثيوبيا الكثر ضالّتها من أجل بناء تحالفات وتعزيز قوّتها في حال اضطرّت إلى السير بخيار الحرب أو المواجهة.
إقرأ أيضاً: السودان الكبير مشرذم بين جيشين
مصر التي بينها وبين إثيوبيا ما صنع الحدّاد، منذ أن شرعت أديس أبابا في بناء سدّ النهضة الذي يهدّد “أمّ الدنيا” بالعطش، وجدت في الخطوة الإثيوبية استفزازاً وتطوّراً من شأنه أن يجعل من إثيوبيا قوة بحريّة جديدة في البحر الأحمر، الأمر الذي يمنحها ورقة ضغط إضافية في المفاوضات على سدّ النهضة. هي لا تخشى أن تتمتّع إثيوبيا بمنفذ تجاري. هي تخشى وجود قاعدة عسكرية أجنبية جديدة في البحر الأحمر تمسّ أمن مصر القومي المطوّق من كلّ الاتجاهات. هذا القلق تستشعره أيضاً كلّ من جيبوتي وإريتريا.
القرن الإفريقي الذي يعجّ بالصراعات النائمة لا ينقصه سوى حلم إمبراطوري طائش لتفجيره مجدّداً في ظلّ التحوّلات والتقلّبات التي تشهدها المنطقة.