ما عاد هناك أحدٌ يصرّ على استمرار الحرب على غزة غير رئيس حكومة إسرائيل نتانياهو والمتطرّفون في حكومته. بيد أنّ الأميركيين الذين يريدون وقف الحرب، أقلّه لأسباب إنسانية، ولتسهيل إطلاق سراح الأسرى، ما يزالون يُمدُّون إسرائيل بالسلاح وبالأموال، ويدافعون عنها حتى في وجه المحكمة الدولية. وعندما اتّهمت إسرائيل عاملين في الأونروا بالمشاركة في هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، سارع الأميركيون ومعهم سبع أو ثماني دول من حلفائهم إلى إيقاف المساعدات التي يقدّمونها للأونروا والتي تخدم أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في غزة وفلسطين ولبنان والأردن وسورية. وأعلنت الأونروا إيقاف اثني عشر موظفاً عن العمل فصلت تسعةً منهم بعد التحقيق، لكنّ المساعدات المتوقّفة لم تعُدْ على الرغم من استغاثة الأمين العامّ للأُمم المتحدة.
لماذا يريد الأميركيون وحلفاؤهم وقف الحرب؟
لاقتناعهم بأنّ الأسرى لن يُطلق سراحهم إلّا بعد هدنة كهدنة تشرين الثاني، أو يموت معظمهم في القصف والحصار. ولأنّ بايدن لا يريد حرباً شاملةً في الشرق الأوسط في سنة رئاسته الأخيرة، وبخاصّةٍ أنّه مرشّح للانتخابات المقبلة. ويأتي أخيراً العامل الإنساني الذي يدعمه الرأي العامّ العالمي، وبخاصّةٍ في أوروبا وأميركا، بسبب الحرب الوحشية على غزة وضحاياها الكثر الكثر والمجاعات والخراب النازل بالعمران والحياة البشرية.
الميليشيات الإيرانية أو الموالية لإيران تتحرّك وتتحرّش في جنوب لبنان وفي العراق وسورية وفي اليمن. وهؤلاء يقولون إنّ تحرّشاتهم لن تتوقّف حتى تتوقّف الحرب على غزة
هذه العوامل والعناصر الضاغطة سبقتها منذ بداية الحرب الدول العربية والإسلامية في قمّة الرياض حين دعت إلى وقف الحرب وإدخال المساعدات والسير في حلّ الدولتين. وتابعت الدول العربية حملاتها وضغوطها في اجتماعين في الأمم المتحدة حيث صوّتت ثلثا دول العالم لوقف الحرب، وأخيراً بعد محاولاتٍ عربية عدّة صدر قرار مجلس الأمن بالمعنى نفسه.
زادت الهموم العربية وهموم دول عدم الانحياز، إلى جانب الدول الكبرى، في مسألة المشكلات التي أحدثها الحوثيون في البحر الأحمر وبحر العرب. بعد الهجمات الحوثية الأولى أصدر العرب بيانات معتدلة تدعو إلى الاستقرار وعدم إزعاج الملاحة. وما شارك أحد من العرب في تحالف “حارس الازدهار” الذي تقوده الولايات المتحدة لتأمين الملاحة، باستثناء البحرين التي يتمركز في بحرها الأسطول الأميركي الخامس. ولا شكّ أنّ الجميع متضرّرون من تعطيل الملاحة أو إزعاجها ومنهم الهنود والصينيون. لكنّ الأكثر تضرّراً هم المصريون الذين فقدوا أكثر من 40% من حركة السفن في قناة السويس. ولذلك اجتمع وزيرا الخارجية المصري والسعودي (وهما من دول البحر الأحمر إلى جانب أربع دول عربية أخرى) أخيراً للتشاور، وأصدرا بياناً عن أمن الملاحة، وعن وقف الحرب على غزة.
لكن من الذي يملك قرار وقف الحرب؟
تملكه الحكومة الإسرائيلية. ونتانياهو مُصرٌّ على الاستمرار حتى تتحقّق الأهداف في القضاء على حماس خشية أن تعود الهجمات بعد مدّة. غير أنّ هذا الأمر أو الهدف لا يبدو متيسّراً. فالمقاومة لم تخمد في شمال غزة ولا في خان يونس التي يقول الإسرائيليون إنّهم يطوّقونها. وبعد الاستيلاء الظاهر على شمال غزة يقول الإعلام الإسرائيلي إنّ الحماسيّين عادوا للظهور في شمال القطاع! ثمّ إنّ الخسائر الإسرائيلية العسكرية ما تزال كبيرة وتتوالى كلّ يوم، والأسرى يموت العديد منهم لأسبابٍ مختلفة أهمّها القصف العشوائي. ولهذا الواقع جانبان: إصرار نتانياهو والجيش على أنّ الوقف الآن ولو لفترة يعني انتصاراً لحماس. أمّا الجانب الثاني فهو تشجيع الأميركيين وأنصار وقف الحرب على المزيد من الضغط باعتبار أنّ الأهداف الإسرائيلية لا يمكن تحقيقها.
ليس من المضمون أن يستفيد الإسرائيليون والإيرانيون وأنصارهم من الحرب الشاملة، لأنّ الخراب سيكون هائلاً في الكيان وفي لبنان
إذا كان قرار وقف الحرب تنفرد به إسرائيل، فمن الذي يمتلك قرار الاستمرار أو التوسيع؟
مرّةً أُخرى إسرائيل ومعها هذه المرّة إيران.
فالميليشيات الإيرانية أو الموالية لإيران تتحرّك وتتحرّش في جنوب لبنان وفي العراق وسورية وفي اليمن. وهؤلاء يقولون إنّ تحرّشاتهم لن تتوقّف حتى تتوقّف الحرب على غزة. والولايات المتحدة تردُّ على التحرّشات لجهتَي العراق وسورية، ولجهة اليمن. في حين تردُّ إسرائيل لجهة جنوبي لبنان ومن شمال فلسطين المحتلّة.
أقسى الجبهات على العالم جبهة أمن البحر الأحمر وبحر العرب. أمّا العرب فهم متضرّرون بشدّة من مذبحة غزة، ومن تهديد أمن الملاحة في البحرين العربي والأحمر. ويتحدّث الأميركيون بالواسطة مع الإيرانيين لضبط الاضطرابات أو إنهائها من جنوب لبنان ومن اليمن. لكنّ الإيرانيين يقولون إنّ قرار الميليشيات مستقلّ تارةً، وطوراً يقولون: أوقفوا الحرب على غزة فيعود الهدوء.
سليمان فرنجية؟
كلّ يوم يهدّد الإسرائيليون بتسعير جبهة الشمال، وهم يتبادلون القصف مع الحزب، وتشتعل الضربات أحياناً من الطرفين إلى حدود الحرب الشاملة. والحزب يهدّد بالطبع بالهجوم الشامل، لكنّه يتحدّث تارةً أخرى عن الالتزام بقواعد الاشتباك التي لا يعرف أحدٌ حدودها بالطبع غير الطرفين المشتبكين: إسرائيل والحزب. والمراقبون يلاحظون أنّ الطرفين متعبان وليس من مصلحتهما المغامرة بالحرب الشاملة. لكنّ المغامرين موجودون في الجانب الإسرائيلي وهم يرون أنّه ما دامت الحرب الشاملة قد نشبت مع حماس وتعسكر من أجلها المجتمع الإسرائيلي، فلماذا لا ننتهز الفرصة فنضرب الحزب أيضاً، بدلاً من الاضطرار لحملة عسكرية أخرى بعد سنةٍ أو سنتين؟!
إقرأ أيضاً: ما يبدأ وما ينتهي في لبنان
ليس من السهل الحديث الآن عن رابحٍ وخاسر، لأنّنا لا نعرف اليوم التالي ولا نعرف معناه، فقد يكون اليوم التالي بعد وقف القتال في غزة، أو اليوم التالي بعد الحرب الشاملة. لكنّ المستفيد الأكبر حتى الآن من الحرب هم الإيرانيون. فالعراقيون يفاوضون الأميركيين على الخروج من العراق. والأميركيون يقولون إنّهم قد يخرجون من سورية. ثمّ إنّ الجبهة الأميركية عجزت عن وقف هجمات الحوثيين في البحرين العربي والأحمر حتى الآن، كما عجزت بواسطة الموفد الأميركي الرئاسي الخاصّ إلى لبنان آموس هوكستين عن وقف هجمات الحزب. وهناك الآن مفاوضات حذرة تقوم بها اللجنة الخماسية العربية – الدولية المعنيّة بالشأن اللبناني لشغل منصب رئيس الجمهورية في لبنان، فهل يستقرّ الرأي على التسليم بمرشّح الحزب: سليمان فرنجية؟!
ليس من المضمون أن يستفيد الإسرائيليون والإيرانيون وأنصارهم من الحرب الشاملة، لأنّ الخراب سيكون هائلاً في الكيان وفي لبنان. أمّا في الحرب المحدودة أو وقف القتال، فتستفيد الميليشيات باعتبارها صمدت، وتتوزّع بعدها درجات الخسارة ومقاديرها على سائر الأطراف الأخرى: { والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@