تواجه الحكومة الماكرونية الثانية، من ولاية الرئيس إيمانويل الثانية في الإليزيه، برئاسة غبريال أتال، ثلاثة تحدّيات كبيرة، وهي:
1- فرنسية داخلية : تتمثّل في الانقسامات والاضطرابات في صفوف المجتمع الفرنسي، مع تنامي قوى اليمين واليمين المتطرّف. ومن هذه الاضطرابات:
– تراجع الطبقة الوسطى، باعتبارها العصب المؤسّس للجمهورية الخامسة.
– ظهور المشاكل والخلافات، وليس فقط الاختلافات بين مؤسسات الحكم الفرنسية السياسية والتنفيذية والإدارية.
– احتدام المعارك التشريعية حول القوانين، تحت قبّة البرلمان بين الجمعية العامة والحكومة وانعكاسها على الشارع.
– تتجلّى أبرز معاناة العهد الحالي في استمرار النزيف في صفوف الأغلبية العادية أو النسبية، أي المتردّدين والوسطيّين.
يحدّد رئيس الجمهورية في فرنسا بحكم الدستور السياسات العامة. هو راسمها وواضع مخطّطها الأوّل. فيما تقع على عاتق رئيس الحكومة المسؤولية التفصيلية في إدارتها ومتابعتها اليومية
2- اتّحادية أوروبيّة وقارّية: تعتبر هذه الأحداث انعكاساً مباشراً للحرب الدائرة داخل البيت الأوروبي أوّلاً، بين روسيا وأوكرانيا. فقد أدخلت هذه الحرب فرنسا، إلى جانب العديد من المشاكل القارّية، في نفق انعدام اليقين والشكّ الكبير. إذ أثّرت على نجاعة ومناعة الإدارة الفرنسية وتناغم مجتمعها، وعرّضتها لمزيد من الأعباء والأكلاف الاقتصادية والمالية. فاضطرّت الحكومة إلى مناقشة الإجراءات التقشّفية واللجوء إلى فرض زيادات ضريبية. كذلك لجأت إلى سحب وتخفيف بعض المساعدات والمنح المؤسّساتية والاجتماعية. تزامن ذلك مع ظهور موجات قومية فرنسية وطنية مناهضة لفكرة الاتحاد الأوروبي. ثمّ تزايدت تداعيات الخطابات الشعبوية مع تصاعد التيار اليميني الداعي إلى الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والطلاق حتى مع اليورو. تشكّل هذه التحدّيات بالنسبة إلى فرنسا تهديداً وجودياً كبيراً.
3- خارج القارّة الأوروبية: تتلخّص هذه التحدّيات في السياسة الخارجية الفرنسية. يقاتل الرئيس الفرنسي ماكرون في سبيل استعادة الهيبة والموقع الفرنسي المؤثّر والمقرّر أكثر بين الكبار على المسرح العالمي المتعدّد الأقطاب. تحاول الإدارة الفرنسية الحالية ترميم الكثير من التصدّعات التي أصابت السياسة الخارجية، بدءاً من الصراع في الأطلسي مع الحلفاء وشمال إفريقيا إلى المحافظة على قلعتها على شطرنج المنطقة العربية والشرق أوسطية، وخاصة لبنان. وتشكّل هذه الوقائع التحدّيات الأهمّ بالنسبة إلى الإدارة الفرنسية.
رئيس الحكومة الفرنسيّة ” انتحاريّ الإليزيه” الدائم
يحدّد رئيس الجمهورية في فرنسا بحكم الدستور السياسات العامة. هو راسمها وواضع مخطّطها الأوّل. فيما تقع على عاتق رئيس الحكومة المسؤولية التفصيلية في إدارتها ومتابعتها اليومية. إنّه المسؤول الأول عن هذه السياسات أمام الرئيس، والسلطة التشريعية. يجعل هذا الواقع من مقام رئيس الحكومة في فرنسا “الانتحاري التنفيذي”، أي أنّه “القنبلة الحكومية” التي قد تنفجر في أيّ وقت، بالاستقالة. وهكذا يفتدي رئيس الحكومة، وكما في كلّ مرّة، بنفسه وبحكومته، رئيس الجمهورية، فيقدّم نفسه قرباناً على مذبح الإليزيه في سبيل الدفاع وإنقاذ العهد الرئاسي.
حصل هذا مع “إليزابيت بورن” التكنوقراطية في المزاج والكلاسيكية في النهج الإداري. لكنّها فشلت في الحفاظ على التشبيكات والتحالفات الضرورية تشريعياً. وخسرت تماسك التأييد النسبي، فأصابت السلطة التنفيذية بعقم دوريّ، لا تعويض عنه إلا في خروجها من السلطة.
يعدّ التغيير الحكومي في نظام فرنسا السياسي شبه الرئاسي إجراءً عاديّاً. يتمّ ويحصل من دون خلافات كبيرة في الأغلب. فتغيير الوزراء أمر مألوف جداً في فرنسا. يوصف في أغلبية الظروف بأنّه تدبير عادي في الظاهر. لكنّه في الباطن تجديد اضطراري لمكافحة الخلل وضخّ جرعات المرونة للمؤسّسات التنفيذية، وتبريد الجمهور وتسكين المواطن الفرنسي، إضافة إلى أنّه الترياق الرئاسي الطبيعي والمتعارف عليه لتنقية نفسه من المناوئين والسموم الحكومية علّها تمكّنه من استكمال مشواره.
يعدّ التغيير الحكومي في نظام فرنسا السياسي شبه الرئاسي إجراءً عاديّاً. يتمّ ويحصل من دون خلافات كبيرة في الأغلب. فتغيير الوزراء أمر مألوف جداً في فرنسا
ماكرون والمنهجيّة البوتينيّة
ينتهج الرئيس ماكرون مع غابرييل أتال المنهجية السياسية ذاتها التي اعتمدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف في روسيا. لقد مرّر بوتين الولاية لميدفيديف ثمّ اعتلى السلطة والولاية مرّة ثانية. ذلك ما يفكّر فيه ماكرون، لأنّه لا يستطيع أن يكون رئيساً للمرّة الثالثة، بحكم الدستور الفرنسي. لذا قرّر تمرير السلطة إلى شخصية سياسية تشبهه، وتستطيع منازلة خصومه وقوى التطرّف من اليمين واليسار والمجموعات الشعبوية.
كان ماكرون أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا سيباستيان لوكورنو وزير الجيوش الفرنسية، أو غبريال أتال وزير التربية الأسبق. تفادى ماكرون فخّ “لوكورنو” صاحب النفحة الجمهورية، لأنّه كان سيشكّل في تعيينه بداية النهاية المبكرة للعهد الماكروني الثاني. واكتفى بتوزير رشيدة داتي في وزارة الثقافة، باعتبارها يمينية مقرّبة من الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، لأنّه لا يريد فتح نافذة كبيرة للجمهوريين، وهم اليمين الكلاسيكي، مع إمكانية توافقهم الماكر مع اليمين المتطرّف (التجمّع الوطني)، من أجل إعادة إنتاج أغلبية. وقد تجلّى جزء من هذه المشهدية في إقرار قانون الهجرة.
لذلك استعاض في هذا الأمر عبر شخصية سياسية جديدة، وفيّة أكثر له وتحظى بشعبية فرنسية معقولة، ومن سربه الخاص. إذ يعتبر “أتال” استمرارية وضمانة له. فهو نشيط في السياسة وبارع في التكتيك والمناورات. وتقدّم بسرعة قياسية في سلّم الرتب والمناصب الحكومية. هو ليس “أتال” في العمق، بل إنّه ماكرون الثاني.
حكومة الأرقام القياسيّة والآمال
توصف هذه الحكومة بأنّها حكومة الأرقام القياسية الثلاثية. لقد كلّف أصغر رئيس جمهورية في تاريخ الجمهورية الخامسة أصغر رئيس للحكومة، وهي التي تضمّ أيضاً أصغر وزير للخارجية. يسعى ماكرون عبر هذا التكليف إلى تكريس التقارب الاشتراكي – الجمهوري من خلال الحفاظ على التوازن في المسارين بين الأمن والحرّية. ويعزى بذلك إلى أتال باعتباره الشخصية القادرة على القيام بهذا الدور، بسبب نجاحه في مهمّته في وزارة التربية وفي وقت سريع.
يعلّق الرئيس ماكرون الكثير من الآمال على هذه الحكومة ورئيسها. إنّها حكومة المشاغلة والمساندة بكلّ معنى الكلمة. وجّه إليها أمر مساندة السياسة الماكرونية لإنجاح العهد الرئاسي في خماسيّته الأخيرة. كلّفت كذلك بمحاولة “إشغال” ومكافحة المعارضة الشرسة. يقع في صلب أولويّاتها هامش كبير من المناورة واللعب على الأنماط وبين السطور من أجل إلهاء الخصوم، في العمل على إنجاح التحالفات على القطعة.
لا تزال الأغلبية نسبية، وهي غير مضمونة وثابتة، لا بل هي ضعيفة ومشتّتة وضائعة، فهو مجرّد من الأغلبية المطلقة، وذلك ما يسعى إلى تعويضه بالحدّ الممكن. يعرف ماكرون تماماً أنّه لن يستطيع الحصول عليها بسهولة. لا يريد في الوقت نفسه اللجوء إلى حلّ الجمعية العامّة والدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة، تكون غير مضمونة بالنسبة له لأنّه يتخوّف من أن تشكّل له خسارة إضافية في كمّ وعدد الأغلبية، وهو ما يشكّل له عائقاً كبيراً في مسيرة العهد الآنية.
إقرأ أيضاً: هل ينجح ماكرون في إنقاذ ولايته الثانية؟
تنتظر الرئيس ماكرون ورئيس حكومته مصاعب جمّة على المستوى المحلّي الفرنسي. فهو ملزم بالتعامل بلغة موسيقية سياسية وبجهد كبير منظّم كي لا يحترق سياسياً. هذا ويعتبر ربح أتال ربحاً في جيب ماكرون، لأنّه يؤسّس لإمكانية عودة ماكرون الثالثة بعد مرور الولاية الانتقالية التي لا يريد أن يظفر بها اليمين.
هل تكون حكومة المساندة والإشغال الماكرونية المنتظرة بحقّ؟ هل تنفع دعوات إعادة التسلّح المدني والأهلي والوطني؟ هل تنجح الحكومة أو تقال مجدّداً بوقت قياسي؟ ما هي عقبات الحكومة السياسية والتشريعية؟
في الجزء الثاني غداً:
العقبات أمام نجاح حكومة أتال