لم تقرّر حركة حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تحويل قطاع غزة إلى “ستالينغراد” القرن الواحد والعشرين، ولم تتوقّع ذلك:
– فليس بين أيدي مقاتلي حماس دبّابات، ولا طائرات، ولا مدفعية ثقيلة، ولا صواريخ ضاربة.
– ولم تكن قوات القسّام تترقّب الجنرال “جوكوف” بجحافله الهائلة كي يفكّ الحصار، كما فعل الجيش الروسي في ستالينغراد إبّان الحرب العالمية الثانية، فيدمّر نخبة الجيش الإسرائيلي بين أنقاض غزة.
– وما كان منتظراً من إسرائيل أن تتجاوز كلّ الحدود، بعد الهزيمة المذلّة عقب سقوط 1,200 قتيل في غلاف غزة، خلال ساعات قليلة، وبينهم مئات الضبّاط والجنود.
– ولم يكن في خيال أحد أن تدمّر القوات الإسرائيلية مدن القطاع ومخيّماته، بما فيها من مستشفيات وجامعات ومساجد وكنائس ومخازن ومنازل، وجرف كلّ شيء، حتى الآبار والمقابر وشبكات المياه والصرف الصحّي، تحت ذريعة البحث عن الأنفاق، وبسلاح أميركي فتّاك وغطاء أوروبي شبه كامل.
نتانياهو هو الوحيد الصادق مع رفاقه المتطرّفين، وكلّ المعسكر الصهيوني خارج إسرائيل، منافقون مخادعون. لبّ المشكلة بات واضحاً تماماً من دون أيّ لبس
لكنّ الأكثر عبثية من كلّ هذا، هو الخطاب السياسي المتداول، في إسرائيل كما في الولايات المتحدة وأوروبا، ويتردّد صداه الخافت في العالم العربي، عن شكل “اليوم التالي”، بعد القضاء على حركة حماس.
فلا يوم لغزة بعد هذه الحرب، بنظر نتانياهو ورفاقه، بل غزة أخرى من كوكب آخر، أشبه بحديقة خلفية للمستوطنين، يُمضون فيها أيام العُطلة. وبدلاً من رشقات صواريخ محمد ضيف ويحيى السنوار، باتجاه مدن فلسطين المحتلّة وقراها، يمارس شباب أنيقون في المطاعم والمقاهي الفارهة آداب الضيافة تجاه السيّاح من الطرف الآخر بكلّ مودّة واحترام، من دون عُقَد تاريخية. وهم من بقي في القطاع المحتلّ، بعد طرد المتطرّفين وكلّ من يمتّ إليهم بصلة إلى منافي الأرض. أمّا البيت الأبيض، فيردّد عبارة من طراز عتيق، اسمها “حلّ الدولتين”، ويتغافل عن قضية جوهرية، وهي أنّ الميدان هو الذي يقرّر وجود الدولة الفلسطينية من عدمها، تماماً كما وُجدت إسرائيل عام 1948، وتوسّعت حدودها عام 1967.
فهل الإدارة الأميركية تجهل هذه الوقائع؟ أم هي تخادع العرب؟
لنضع الأمور في نصابها الصحيح: ليس بنيامين نتانياهو هو المجنون بين العقلاء. العكس هو الصحيح: فربّما يكون العاقل بين المجانين، ليس فقط في إسرائيل، بل في المعسكر الصهيوني العالمي، والذي يضمّ في صفوفه ليس فقط منظمة AIPAC الصهيونية في الولايات المتحدة، وكلّ أعضاء الكونغرس وقادة الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ما عدا قلّة نادرة، والغالبية الساحقة للنخب السياسية الأوروبية، من حكومات وأحزاب معارضة، ومع كلّ هؤلاء، الوسائل الإعلامية الرئيسية.
نتانياهو هو الوحيد الصادق مع رفاقه المتطرّفين، وكلّ المعسكر الصهيوني خارج إسرائيل، منافقون مخادعون. لبّ المشكلة بات واضحاً تماماً من دون أيّ لبس. فهل انخدعت حماس أيضاً بالكلام المعسول، فإذا بها تحارب العالم الغربي كلّه لا إسرائيل؟
لا يوم لغزة بعد هذه الحرب، بنظر نتانياهو ورفاقه، بل غزة أخرى من كوكب آخر، أشبه بحديقة خلفية للمستوطنين، يُمضون فيها أيام العُطلة
4 أسئلة جوهريّة
أوّلاً: هل كان الرئيس الأميركي جو بايدن بكامل قواه الإدراكية، عندما قرّر تزويد إسرائيل، بكلّ ما تمتلكه بلاده من أسلحة مدمّرة كافية للقضاء على قطاع غزة كلّه، وتشريد كلّ سكّانه، وقتل عشرات الآلاف منهم، وتجويع مئات الآلاف، بعد القضاء على كلّ معالم الحياة فيه، ثمّ يتوقّع من صديقه اللدود، أن يلتزم بمعايير السلامة والوقاية كي لا يسقط الكثير من المدنيين بما يتخطّى كثيراً جدّاً معيار “الأضرار الجانبية الاعتيادية” في كلّ حرب؟
ثانياً: هل من المعقول أن ينتظر من نتانياهو الالتزام بحلّ الدولتين، وهو الذي لم يفعل أيّ شيء طوال حياته السياسية كرئيس للوزراء إلا تدمير فكرة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وسط سرطان الاستيطان الذي لا يهدأ؟
ثالثاً: هل يمكننا تصديق الواقعة التي رواها موقع أكسيوس Axios الأميركي أنّ بايدن غضب من نتانياهو لأنّه لا يريد الإفراج عن المخصّصات المالية للسلطة الفلسطينية، محسوماً منها حصة قطاع غزة حتى إنّه أقفل الهاتف بوجه “بيبي”؟
رابعاً: هل من العدل بشيء، إن لم نقل اللياقة السياسية، تدمير القطاع بصواريخ أميركا وقنابلها الثقيلة وبأيدي الإسرائيليين، ثمّ مطالبة الدول العربية الغنيّة بدفع تكاليف رفع الأنقاض وتعمير كلّ شيء من مسافة صفر؟
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قال أخيراً إنّ “العرب لا يريدون إعمار غزة كي تُدمّر لاحقاً، بمعنى أنّهم يريدون ضمانات أميركية أنّ هذه هي المعركة الأخيرة، فلا بدّ من إحلال السلام الدائم، ولا يكون ذلك إلا بقيام دولة فلسطينية”.
لكن هل تعترف إسرائيل بأيّ حقوق للفلسطينيين؟ وهل الولايات المتحدة قادرة على إلزام إسرائيل بشيء مع أنّها لا شيء من دون دعم واشنطن كما ثبت أخيراً؟ والأهمّ بالنسبة للمصير السياسي لبايدن، هل وعى أخيراً أنّ نتانياهو يماطل في غزة قدر الإمكان، حتى إنّه أعلن أنّ الحرب ستمتدّ إلى عام 2025، وهو عام الانتخابات الرئاسية الأميركية؟
إنّها حرب نتانياهو لإسقاط بايدن ودعم صديقه ترامب.
سؤال إضافيّ: أين العرب؟
يبقى سؤال إضافيّ وأخير:
لماذا يُهمل العرب اللحظة السانحة الآن، لممارسة أقصى الضغوط لتحقيق الحلول المنصوص عليها في قرارات مجلس الأمن منذ عشرات السنين، وفي توصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ وليس السؤال، أو المقايضة بين ماذا وماذا؟
كانت المعادلة إلى حين قمّة بيروت عام 2002، هي: “الأرض مقابل السلام”، أي انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها عام 1967، أي كلّ الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة. بعد 22 عاماً، بات الكلام الآن عن انسحاب إسرائيل من كامل قطاع غزة مقابل السلام. ومع هذا لا يريد الإسرائيليون الانسحاب من أيّ زاوية من فلسطين ولا من أيّ أرض عربية محتلّة سواء في الجولان أو لبنان. وفوق ذلك، يريدون السلام، بل يريدون أن نطلب السلام منهم، حتى نعيش نحن في سلام.
إقرأ أيضاً: أين تقع غزّة؟
ليست المعركة بين حماس وإسرائيل، ولا بين أهل غزة وإسرائيل، بل هي بين كلّ الفلسطينيين وإسرائيل. وبعبارة أوضح، يريدون استعمار العالم العربي كلّه، ولا ينجح استعمار من هذا النوع، إلا بتغيير ذهنية الشعوب المراد استعمارها. وهو ما يطالب به نتانياهو في قطاع غزة، في اليوم التالي، بعد القضاء على حماس.
يريد تنشئة أيتام غزة، الذين قُتل آباؤهم وأمّهاتهم وإخوانهم وأصدقاؤهم وأساتذتهم، على حبّ إسرائيل، وكراهية حماس. وهذا هو شرط حقيقي لا خيالي. صحيح أنّه مستحيل التحقيق، لكنّه يستبطن الهدف الحقيقي من الحرب كلّها. فإذا كان المراد نزع كراهية إسرائيل من قلوب أطفال غزة، ولعشرات السنوات المقبلة، بضمان أمن خمسين أو ستّين ألف مستوطن يهودي في غلاف غزة، وهو أمر متعذّر تحقيقه بطبيعة الحال، فإنّ الحلّ الواقعي بحسب نتانياهو لأزمة الأمن القومي الإسرائيلي، هي إبعاد الفلسطينيين أبعد مسافة ممكنة خارج فلسطين التاريخية، كي يعيش المحتلّون في هدوء واطمئنان.
هذه هي التحدّيات الحقيقية أمام العرب، وليست من قبيل الأوهام. وبداية الحلّ العربي هو تصوّر الواقع كما هو في غزة والضفة وبقيّة فلسطين. سياسة التجاهل لن تكون نتائجها إلا كارثية على الأمن القومي للدول العربية واحدة واحدة، ولمجمل العالم العربي برمّته.