تلقّت إيران في الأيام القليلة الماضية ضربات موجعة تمثّلت في عدد من الهجمات الخارجية:
1- هجوم في مدينة كرمان أودى بحياة 94 شخصاً أثناء إحياء الذكرى الرابعة لاغتيال القائد السابق لـ”فيلق القدس” قاسم سليماني.
2- مقتل 11 شرطيّاً في هجوم مسلّح على مقرّ شرطة مدينة راسك في محافظة سيستان وبلوشستان المتاخمة لباكستان.
3- اغتيال القائد الكبير في الحرس الثوري رضى موسوي في دمشق.
4- مقتل 9 أشخاص، قالت إيران إنّهم 3 نساء و4 أطفال كلّهم باكستانيون، في هجوم نفّذته القوات الباكستانية على محافظة سيستان بلوشستان أصابت 6 أهداف داخل 3 مواقع بعمق 40 إلى 50 كيلومترا داخل الأراضي الإيرانية. وذلك ردّاً على قصف إيراني بصواريخ ومسيّرات ما قالت إنهما مقران لجماعة “جيش العدل” المسلحة في الأراضي الباكستانية.
التزام إيران الصمت وعدم الردّ يمكن تفسيره ضعفاً، واكتفاء طهران بتصريحات التهديد لم يعد يقنع المقرّبين والأنصار قبل المتشكّكين والخصوم، لا سيما أنّ طهران نفسها وجّهت أصابع الاتّهام في الهجمات التي طاولتها إلى إسرائيل وأميركا
ترافقت الهجمات مع تصعيد على الجبهات التي يشغلها الحلفاء:
– قصف أميركي بريطاني لمواقع الحوثيين في اليمن ردّاً على اعتراضهم السفن المبحرة إلى إسرائيل ومنها وعرقلة الملاحة الدولية.
– اغتيال القيادي في “حماس” صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت والقيادي في الحزب وسام الطويل في الجنوب، فضلاً عن التصعيد الواضح على الجبهة اللبنانية.
– وقصف أميركي لفصائل “الحشد الشعبي” في العراق واغتيال مسؤول في حركة “النجباء” ردّاً على الهجمات على القواعد العسكرية الأميركية في سوريا والعراق.
– مواصلة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وسط رفض أميركي لوقف النار.
– إضافة إلى القصف الإسرائيلي المستمرّ لمواقع ومطارات ومجموعات في سوريا تحت السيطرة الإيرانية.
إيران تردّ… على كردستان وباكستان وإدلب
التزام إيران الصمت وعدم الردّ يمكن تفسيره ضعفاً، واكتفاء طهران بتصريحات التهديد لم يعد يقنع المقرّبين والأنصار قبل المتشكّكين والخصوم، لا سيما أنّ طهران نفسها وجّهت أصابع الاتّهام في الهجمات التي طاولتها إلى إسرائيل وأميركا. أمّا الردّ المباشر عليهما فيعني الحرب الشاملة على التوقيت الإسرائيلي.
بين هذا الخيار وذاك، فضّلت إيران استعراض قوّتها النارية بهجمات صاروخية على أراضي دول “صديقة”:
– استهدفت “أهدافاً” في إربيل عاصمة كردستان العراق قالت إنّها “مقرّ التجسّس” التابع لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” ردّاً على “استشهاد قادة الحرس الثوري الإيراني وجبهة المقاومة” على يد إسرائيل.
– واستهدفت أيضاً مقرّ “الحزب الإسلامي التركستاني” في مدينة إدلب السورية حيث جرى تدريب تنظيم “داعش – خراسان” الذي اتّهمته بالمسؤولية عمّا حلّ في مدينة كرمان.
– واستهدفت كذلك قاعدتَين لجماعة “جيش العدل” البلوشية المتشدّدة في باكستان، ردّاً على الهجمات في راسك.
تحاشت الردّ على إسرائيل مباشرة، لكنّ وسائل إعلامها قالت إنّ إرسال الصواريخ إلى مسافات تعدّت 1,200 كيلومتر، علامة على قدرة طهران على ضرب دولة الاحتلال بشكل مباشر.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، حرصت طهران على تفادي الدخول في مواجهات مباشرة، سواء مع الولايات المتحدة أم إسرائيل. وعلى الرغم من اتّهام تل أبيب وواشنطن لطهران بدعم “حماس”، ضمناً، في التحضير لعملية “طوفان الأقصى”، فإنّ إيران حرصت على نفي هذا الاتّهام في أكثر من مناسبة، تجنّباً لتحمّل وزر الوقوف وراء العملية الاستثنائية، وهو ما قد يُرتّب تداعيات قد تصل إلى شنّ هجمات ضدّ أهداف إيرانية.
من خصائص السياسة التي رسمها المرشد على مدى العقود الماضية اللعب على حافية الهاوية من دون السقوط في فخّ الحرب
تنصّل إيران من أذرعها في المنطقة
طوال المئة يوم الماضية من الحرب، عمدت طهران إلى التأكيد أنّ “أنصار الله” الحوثيين و”الحشد الشعبي” في العراق والحزب في لبنان، يتصرّفون بناءً على قراراتهم وإمكاناتهم، وأنّها ليست مسؤولة عن سياساتهم. في مؤشّر إلى رغبتها في التنصّل من أيّ مسؤولية عن هجمات تسفر عن ردّ فعل أطلسي أو إسرائيلي ضدّها.
وكان لافتاً .أنّها سحبت سفينتها الاستخبارية “بهشاد”، من السواحل الجنوبية للبحر الأحمر، إلى ميناء بندر عباس، تزامناً مع القصف الإنغلوسكسوني لمواقع الحوثيين (ثمّة أنباء عن عودتها مجدّداً). وربّما سعت من وراء ذلك إلى التأكيد، بشكل عملي، أنّها ليست في وارد التدخّل لمساندة الحوثيين في حرب باب المندب.
كذلك فإنّ المُدمّرة “ألبرز” والسفينة العسكرية “بوشهر” وسفينة الدعم “مكران”، الموجودة في البحر الأحمر، منذ الاشتباكات التي وقعت بين البحرية الأميركية والحوثيين غرب محافظة الحديدة في نهاية العام المنصرم، اكتفت بمراقبة الهجمات ضدّ الحوثيين، بدلاً من الانخراط في مواجهتها.
بعد تفجيرَي كرمان أمر مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي القادة العسكريين باتّباع “الصبر الاستراتيجي” في التعامل مع الولايات المتحدة، وتجنّب إدخال إيران في مواجهة مباشرة معها بأيّ ثمن، علماً أنّ لهذا الصبر أثماناً غالية، مثلما عندما اختبرت واشنطن ردّة فعل إيران باغتيال سليماني.
النظام أوّلاً…
من خصائص السياسة التي رسمها المرشد على مدى العقود الماضية اللعب على حافية الهاوية من دون السقوط في فخّ الحرب. لن تفرّط طهران بنظامها كرمى لعيون غيرها. لكنّها تسعى بكلّ ما أوتيت من قوة لحماية نفوذها الإقليمي الذي بنته طوال 45 عاماً:
– تساند “حماس” لكن ضمن هوامش تمنع اتّساع نطاق التصعيد إلى مستويات غير مرغوبة قد ترتّب حرباً شاملة تمسّ الأمن القومي الإيراني.
– تدعم الحوثيين في إغلاق باب المندب، لكنّ مضيق هرمز الواقع تحت سيطرتها يبقى مشرّع الأبواب.
– تشجّع “الحشد” على قصف القواعد الأميركية في العراق وسوريا، لكن عندما تضطرّ إلى الردّ تكتفي بقصف مقرّات كردية في إربيل، ومراكز لجماعات تركستانية متطرّفة موالية لـ”داعش” أو بلوشيّة منبثقة من “القاعدة” وأخواته.
إقرأ أيضاً: المقاومة الفلسطينية تلاحق بايدن: ناخبو أميركا الشباب ضدّ إسرائيل؟
– وتطلب من الحزب فتح جبهة الجنوب، فيما هي تفاوض أميركا على إقفالها.
“الصبر الاستراتيجي” على الرغم من أثمانه الغالية يبقى ضرورة إيرانية ملحّة.
طهران تتطلّع إلى استكمال التفاهمات التي توصّلت إليها مع واشنطن، قبيل اندلاع الحرب على غزة، والتي أفضت إلى اتفاق حول تبادل المحتجزين وحصولها على ستّة مليارات دولار كانت مُحتجزة لدى كوريا الجنوبية، وتسعى إلى استئناف مثل هذه الصفقات التي قد تفضي إلى رفع جزئي للعقوبات المفروضة عليها. وتخشى صداماً مع إدارة الرئيس جو بايدن. إذ قد تكون الفترة الباقية من ولايتها هي فرصتها الأخيرة لإنجاز اتفاق في ظلّ ترجيحات لعودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض على حصان دونالد ترامب.
المصلحة الوطنية الإيرانية تتقدّم أيّ شيء في العقل الإيراني. أمّا الثورة فهي معدّة للاستهلاك الخارجي. ومع ذلك فإنّ “الوطنية” الإيرانية تقتضي أيضاً التمسّك بالنفوذ الإقليمي كهدف استراتيجي لسياسة طهران الخارجية، وإبقاء خيار المواجهة قائماً في حال تضرّر هذا النفوذ بشكل كبير.