لم تعد المقاومة الفلسطينية حكراً على أولئك الذين يحملون السلاح ويخرجون من أنفاق غزة مكبّدين الاحتلال الإسرائيلي خسائر في الأرواح والمعدّات والمعنويّات، ولا هي محصورة في أهل غزة الصامدين على الرغم من الكارثة الإنسانية المتواصلة بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، وليست أيضاً في نموذجها الأصغر في الضفة الغربية وجنوب لبنان والبحر الأحمر. هي أكثر من ذلك كلّه، فقد باتت عابرة للدول والقارّات والبحار والمحيطات، وهي تطوّر الصراع الذي تخشاه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وتتحدّث عنه دون أن تسمّيه باسمه.
المقاومة الفلسطينية هي السرّ الذي يعرفه الجميع، ولا يجهر به جلّهم. وربّما سداد رميها أصاب، وحرّك وأقلق كثيرين، لا سيما أنّها تجاوزت مرحلة دقّ الأبواب المغلقة أمام الفلسطينيين وصراعهم مع الاحتلال الإسرائيلي، ليبلغ مداها فتح الكثير منها وبثّ تأثيرها في دائرة عالمية يتّسع قطرها يوماً بعد يوم.
في عقر دار الولايات المتحدة الأميركية، الحليف والداعم الرئيسي لإسرائيل في عدوانها ضدّ الفلسطينيين، تزداد الضغوطات على إدارة الرئيس بايدن لموقفها المنحاز لإسرائيل إثر استقالة مسؤولين في إدارته وانتقاد آخرين سياسة إدارته تجاه الفلسطينيين
إن كانت إسرائيل والولايات المتحدة والحلف الموالي لهما يصرّون على تسمية حرب الإبادة الجماعية، التي أطلقوها ضدّ الفلسطينيين، بأنّها حرب بين إسرائيل وحماس، ومعركة النور في وجه الظلام، وأنّها تطال العالم الحرّ بأسره، فإنّهم بعد أكثر من ثلاثة أشهر على محاولاتهم إطاحة المقاومة سيجدونها في كلّ مكان يقصدونه وقد باتت أقرب إليهم من ظلّهم.
فشل الحراك الأميركي في المنطقة
فيما كان وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن يقوم بجولته الرابعة في المنطقة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول 2023)، لتجديد الضغوط على دول الإقليم والتأكّد أنّ مواقفها لم تخطُ خطوة واحدة في اتجاه دعم المقاومة، واجه، وفق ما صرّح به، “لقاءات صعبة”. لا سيما أنّ وعود إسرائيل بإنهاء المعركة وتصفية المقاومة الفلسطينية ظلّت ضرباً في الهواء، إضافة إلى أنّ جهود إدارة رئيسه بايدن، التي يقودها مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز، من أجل التوصّل إلى صيغة “أمنيّة” تمهّد لإنهاء العدوان، لم تحقّق أيّ تقدّم أيضاً.
حاول بيرنز بالتعاون مع رئيس الموساد الإسرائيلي، ومن خلال المخابرات المصرية ووساطة قطر، اجتراح أفكار ومبادرات تقبلها المقاومة الفلسطينية وتنهي المواجهة المسلّحة، لكنّها جميعاً لقيت رفضاً قوياً من جانب المقاومة وحركة حماس. عندما حاول بلينكن الانتقال مجدّداً إلى استخدام ضغوط إدارته على قيادة السلطة الفلسطينية لدفعها إلى “مزيد من الإصلاحات والتجديد” لتولّي مسؤولية قطاع غزة في إطار وعد وأمل بالوصول إلى حلّ الدولتين في اليوم التالي للحرب، وجد هذه المرّة رفضاً مدوّياً من الرئيس محمود عباس الذي ردّ قائلاً: “كيف يمكن للإدارة الأميركية، التي لم تتمكّن من إجبار إسرائيل على إرجاع أموال الضرائب التي تحتجزها، أن تفرض حلّ الدولتين”.
ماذا طلبت أميركا من “فتح”؟
استناداً إلى مصادر في حركة فتح تحدّثت لموقع “أساس” فإنّ “عمليات الإصلاح والتجديد التي تريدها الإدارة الأميركية من السلطة الفلسطينية تتعلّق بتعيين نائب للرئيس عباس وتشكيل حكومة من التكنوقراط الشباب، وطبعاً مواصلة العمل على منع أيّ هجمات ضدّ إسرائيل في مناطق سيطرة السلطة في الضفة الغربية، لكن لا تتضمّن أيّ وعود جدّية ملموسة بتحقيق حلّ الدولتين”. وإن كان لهذا الرفض أن يعزّز بديلاً آخر، فإنّه بالتأكيد سيكون نهج المقاومة الذي بات تأثيره جليّاً واضحاً على مستقبل القضية الفلسطينية.
بايدن الداعم الكبير لإسرائيل في حربها ضدّ المقاومة الفلسطينية قَلِق، وشركاؤه الإسرائيليون يعبرون أزمة خلافات كبيرة تهدّد مستقبل التحالف الذي يقوده رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو
محاولات الإدارة الأميركية لتجاوز المقاومة والإصرار على إحباط مطلبها بوقف إطلاق النار أولاً قبل الدخول في مفاوضات لإطلاق سراح المحتجزين الاسرائيليين لديها، باءت بالفشل أيضاً على الرغم من تغليف المحاولات الأميركية بدعوات جديدة تحمل عنوان عدم تصعيد وتطوّر الصراع في المنطقة. ومع كلّ ذلك، كانت المقاومة تتقدّم على المستوى العالمي هذه المرّة تحت اسم جديد من خلال محاكمة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية. وهي الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا وتنتظر صدور قرار عاجل يمكن أن يطلب من إسرائيل وقف عدوانها على غزة. وهي المقاومة ذاتها التي دفعت نائبة رئيس الوزراء البلجيكية للإعلان أنّ بلادها لا يمكن أن تبقى صامتة تجاه التهديد الذي أطلقته إسرائيل بـ”الإبادة الجماعية” في قطاع غزة، وأشارت إلى أنّها ستقدّم اقتراحاً لحكومتها للانضمام إلى جنوب إفريقيا في رفع دعوى قضائية ضدّ تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. وكان المحامي الفرنسي وخبير القانون الدولي جيل دوفير أطلق مبادرة تضمّ 300 إلى 400 محامٍ من جميع أنحاء العالم لمقاضاة إسرائيل دولياً على جرائمها المستمرّة في غزة.
ناخبو أميركا أكثر ميلاً لفلسطين
في عقر دار الولايات المتحدة الأميركية، الحليف والداعم الرئيسي لإسرائيل في عدوانها ضدّ الفلسطينيين، تزداد الضغوطات على إدارة الرئيس بايدن لموقفها المنحاز لإسرائيل إثر استقالة مسؤولين في إدارته وانتقاد آخرين سياسة إدارته تجاه الفلسطينيين. ووفقاً لاستطلاع للرأي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” و”معهد سيينا للأبحاث” أواخر شهر كانون الأول الماضي، فإنّ الناخبين المسجّلين الذين تراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً قالوا إنّهم أكثر ميلاً إلى دعم القضية الفلسطينية على حساب إسرائيل.
يزداد قلق الإدارة الأميركية مع قرب الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في أواخر العام الحالي وتأثير دعمهما المطلق لإسرائيل على حظوظ فوز بايدن، لا سيما مع الانتصار الأخير الذي حقّقه الرئيس السابق دونالد ترامب في أول انتخابات تمهيدية لاختيار مرشّح عن الحزب الجمهوري. ويُعتقد أنّ ترامب في حال اختياره مرشّحاً للجمهوريين يملك حظوظاً كبيرة لإطاحة بايدن.
بايدن الداعم الكبير لإسرائيل في حربها ضدّ المقاومة الفلسطينية قَلِق، وشركاؤه الإسرائيليون يعبرون أزمة خلافات كبيرة تهدّد مستقبل التحالف الذي يقوده رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، واقتصاد إسرائيل يضعف ويتراجع مع إصرارها على مواصلة الحرب في كلّ من غزة والضفة وجنوب لبنان.
إقرأ أيضاً: تركيا أمام “محاولة انقلاب” أميركية – إسرائيلية؟
في مقابل ذلك تتوسّع دائرة التأييد للقضية الفلسطينية في مختلف بقاع الأرض، وباتت التظاهرات الأسبوعية الداعية لوقف الحرب ومحاسبة إسرائيل ظاهرة دائمة في عدد من العواصم العالمية. وفشلت كذلك مساعي إسرائيل وأميركا الجديدة خلال الأسابيع الأخيرة في ربط المقاومة الفلسطينية بـ”القاعدة” وأنّها تخطّط لتنفيذ هجمات إرهابية في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، وفق ما أفاد بيان صدر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
لم تنتهِ المعركة بعد، ولا مؤشّر يقول إنّها على وشك التوقّف. لكنّ الأكيد حتى الآن أنّ المقاومة الفلسطينية تمكّنت من تحقيق التغيير والتأثير لمصلحة القضية الفلسطينية، وأنّ صوتها يطنّ على مدار الساعة في آذان الجميع، وبالتحديد في آذان بايدن ومساعديه ونتانياهو وزملائه ومواطنيه، وهو صوت ذو رنين واحد وأسماء متعدّدة.