لا يمكن لوم الحكومة اللبنانية التي على رأسها نجيب ميقاتي في شيء، بما في ذلك ربطها مصير لبنان بحرب غزّة، علماً أنّ مثل هذا الربط جريمة بحقّ البلد وبحقّ مواطنيه. ثمّة قوة قاهرة لا تستطيع الحكومة الوقوف في وجهها بعدما استحوذت هذه القوة على كلّ السلطات وقرّرت شنّ “ميني حرب” في جنوب لبنان وفق أجندة إيرانيّة واضحة.
من هذا المنطلق، يأتي موقف الحكومة الذي ليس سوى تعبير عن مدى سيطرة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران على لبنان. تمارس السيطرة عبر الحزب الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” يؤدّي المهمّات المطلوبة منه، أكان ذلك في لبنان نفسه أو في سوريا أو في العراق… أو في اليمن، إلى جانب الحوثيين. لمن فاتته الذاكرة، إنّ الفضائية التابعة للحوثيين، الذين يسمّون أنفسهم “جماعة أنصار الله”، موجودة في بيروت في حماية الحزب وليس في مكان آخر.
لا يمكن لوم الحكومة اللبنانية التي على رأسها نجيب ميقاتي في شيء، بما في ذلك ربطها مصير لبنان بحرب غزّة، علماً أنّ مثل هذا الربط جريمة بحقّ البلد وبحقّ مواطنيه
لم يعد الأمر متوقّفاً على جريمة من نوع ربط لبنان ومصيره بحرب غزّة. يتعلّق الأمر بمصالحة بين لبنان والمنطق. صار لبنان والمنطق خطّين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا أبداً، وذلك منذ توقيع اتفاق القاهرة في تشرين الثاني من عام 1969 مع ما يعنيه ذلك من تخلٍّ للبنان عن سيادته على جزء من أرضه. ليس السلاح الإيراني في لبنان سوى وريث للسلاح الفلسطيني الذي جاء بالخراب إلى البلد. بل إنّ السلاح الإيراني أخطر بكثير من السلاح الفلسطيني، خصوصاً أنّ من يحمله ومن يقاتل به شابّ لبناني ارتضى أن يكون “جندياً في جيش الوليّ الفقيه”.
أين الجبهة التي تقول للحزب: “كفى”؟
لا يرتبط الوضع بحكومة تربط مصير لبنان بحرب غزّة، التي لم يعد معروفاً كيف ستنتهي وما الذي ستكون انعكاساتها على المنطقة كلّها، بل بما يتجاوز المنطقة، خصوصاً أنّ حروباً أخرى ولدت من رحم هذه الحرب. في النهاية، لا قيمة لأيّ كلام يصدر عن حكومة لبنانيّة تقول للعالم إنّها مع تطبيق القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن. يقول وزراء في الحكومة إنّ لبنان مستعدّ لتطبيق القرار فيما الطفل يعرف أنّ ذلك ليس ممكناً بعدما رفض الحزب التزاماته وقرّر، منذ اللحظة الأولى لصدور الـ1701، أخذ ما يريده منه، أي وقف النار بينه وبين إسرائيل لفترة معيّنة تسمح له بالتقاط أنفاسه.
لا تقدّم مواقف الحكومة ولا تؤخّر في غياب جبهة لبنانية عريضة تقول للحزب الحاكم ولـ”المرشد” المحلّي أن كفى تعني كفى وأنّ اللبنانيين، بأكثريّتهم الساحقة، بمن في ذلك قسم لا بأس به من الشيعة، يرفضون ربط لبنان بحرب غزّة ويعرفون تماماً أنّ سلاح الحزب وصواريخه ومسيّراته لا تحمي لبنان واللبنانيين ولا الجنوب وأهله. هذا السلاح وكلّ ما هو متفرّع عنه ورقة إيرانيّة في لعبة تبدو أكبر من لبنان. يؤكّد ذلك توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل قبيل انتهاء عهد رئيس الجمهورية السابق. ميشال عون، الذي كانت هناك حاجة إلى توقيعه لا أكثر. جاء توقيع الاتفاق بضوء أخضر إيراني!
ثمّة دفتر شروط واضح على حكومة نجيب ميقاتي التزامه في حال كان مطلوباً منها ممارسة الحدّ الأدنى من تسيير شؤون الناس عن طريق عقد جلسات لمجلس الوزراء بين حين وآخر. في إطار دفتر الشروط هذا، مسموح في بعض الأحيان، قول الشيء وضدّه. المهمّ أن يكون لبنان “ساحة” إيرانيّة ولا شيء غير ذلك، تماماً كما حال العراق. تستطيع الحكومة العراقيّة، مثلاً، التظاهر بأنّها تدين الاعتداء الإيراني على مطار إربيل ومواقع أخرى في كردستان… والتظاهر أيضاً بأنّها مستعدّة للذهاب إلى مجلس الأمن من أجل تأكيد امتلاكها هامشاً للمناورة في تعاطيها مع الممارسات الإيرانيّة في الداخل العراقي!
ثمّة قوة قاهرة لا تستطيع الحكومة الوقوف في وجهها بعدما استحوذت هذه القوة على كلّ السلطات وقرّرت شنّ “ميني حرب” في جنوب لبنان وفق أجندة إيرانيّة واضحة
بشّار “عمل حاله ميّتاً”
كلّما مرّ يوم يزداد الوضع في جنوب لبنان خطورة. بات واضحاً أنّ حروب إيران في المنطقة، أكان ذلك من خلال جنوب لبنان أو العراق أو البحر الأحمر أو التهريب عبر سوريا إلى الأردن، لا تخدم الفلسطيني الذي يخوض حرب غزّة بمقدار ما أنّها تسيء إليه. يشير إلى ذلك استباحة إيران للعراق من جهة وتوريط الحوثيين في تعطيل الملاحة في البحر الأحمر من جهة أخرى. ماذا إذا تطوّرت الأحداث في البحر الأحمر وخليج عدن وأدّى ذلك إلى إلحاق أذى بحركة المرور في قناة السويس؟ ماذا إذا تطوّر الوضع العراقي في اتجاه مزيد من الضغط على القوات الأميركية الباقية فيه؟ ماذا إذا قرّرت إسرائيل الذهاب إلى أبعد في ردّها على الحزب في جنوب لبنان؟ الجواب عن هذه الأسئلة أنّ من مصلحة إسرائيل في الوقت الحاضر استخدام حروب إيران في المنطقة لتشتيت التركيز على غزّة والوحشية التي تمارسها في القطاع ردّاً على “طوفان الأقصى”….
لم تكن من ضرورة لكلام نجيب ميقاتي الذي يربط بين لبنان وحرب غزّة على الرغم من الظروف القاهرة التي يعيش في ظلّها البلد والتي تعاني منها حكومته. المشكلة أكثر تعقيداً بكثير من حكومة تقول الكلام وعكسه. المشكلة في السيطرة الإيرانية على لبنان وعلى سوريا والعراق وجزء من اليمن. من أجل الهرب من الواقع الذي يتحمّل مسؤوليّته شخصياً، وهو واقع سقوط سوريا تحت الهيمنة الإيرانية، لجأ بشّار الأسد إلى وضع الشخص الذي يتظاهر بأنّه متوفٍّ. وصف صديق خليجي وضع بشّار بقوله: “عمل حاله ميّتاً”. كان في استطاعة الحكومة اللبنانية اتباع الأسلوب ذاته لو كان لبنان متصالحاً مع المنطق… ولو كانت إيران في وارد الاستغناء عن جبهة جنوب لبنان!
إقرأ أيضاً: ميقاتي ينقلب على “الطائف”..